الازدواجية لا توجع أحدا!

رحاب أبوهوشر

تداول الناس خبرا نُشر عن تبرع "مارك زوكربيرج" -مؤسس موقع "فيسبوك" للتواصل الاجتماعي- بـ (99%) من أسهم شركته لصالح الجمعيات الخيرية، احتفالا بمولد طفلته الأولى، بما يعادل 450 مليون دولار. أحدث الخبر ضجة كبيرة، فقد أثار هذا العطاء الكبير والنبيل لهذا الملياردير الشاب ذهولهم، وعلق كثيرون على "فيسبوك" يمتدحون تخليه عن جزء مهم من ثروته الطائلة من أجل الخير، ويثنون على قيمه وثقافته الملتزمة بخدمة المجتمع الإنساني، وإيمانه بضرورة توفير التعليم والعلاج للفقراء والمحتاجين، ويقارنونه بأثرياء الفساد والسرقة في البلدان العربية، الذين ينهبون شعوبهم، عوضا عن خدمتها.

المفارقة أن منظومتنا الثقافية لن تحتفي بـ"مارك"، لو كان يعيش في مجتمع عربي، وسينقض معظم المعجبين به للسخرية منه إن لم يتهموه بالجنون، فكيف لشخص عاقل، كافح لجني ثروته أن يبددها بين الناس؟! أما بالنسبة لأقربائه، فسيستعينون بالقضاء للحجر عليه، ومصادرة أمواله! وإن لم يتعرض لذلك، طالته الشائعات المشككة بنواياه، فربما أنه يريد شراء ذمم الفقراء تمهيدا لفوزه بمقعد النيابة في أهم دائرة انتخابية، وبما أنه ليس مسلما، إذن لا بد أنه يوظف تبرعه السخي لهدم عقيدة المسلمين، ولعله يخدم مؤامرة سياسية خارجية! سيجري التعامل معه بشروط حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، التي ليس من بينها أبدا الإيمان بالواجب تجاه الآخرين، فهذ الإيمان لن نعثر عليه خارج منظومة مجتمع المواطنة.

لا نُنكر أنَّ لدينا عددا قليلا نسبيا من الأفراد والمؤسسات الخاصة، ممن يقدمون تبرعات لقطاع التعليم أو الصحة وسواها، ولكنها تبقى حالات محدودة، لا تعكس أو تشكل نمطا ثقافيا اجتماعيا، في مجتمعات ينقصها الحس الجمعي، ولا تملك مفهوما للالتزام الإنساني والدور الاجتماعي، وتحصر أعمال الخير في إحسان ديني موسمي، لا يحدث أثرا في تحسين حياة الفقراء أو يحد من نسبة الفقر. أما أثرياء الملايين والمليارات، فقد يقدم بعضهم ملايينه تبرعا لحديقة حيوان في دولة غربية أو لناد رياضي مشهور، ولا يدفعها لخدمة شعبه أو قضايا مجتمعه.

يُبدي الناس إعجابا واندهاشا، بما يطلعون عليه من إنجازات عظيمة لـ"الآخرين" الغربيين، على المستويين الإنساني والوطني، في الدول والمجتمعات المتقدمة، ويقارنونها بأحوالنا المتردية، بوافر من الحسرة والغضب وأحيانا جلد الذات، وإن كان بعض الناس يعزو تلك الإنجازات لنجاح الغربيين في بناء الدولة والمجتمع المدنيين، إلا أن كثيرين سواهم يفصلونها عن سياقاتها، كما لو أنها حدثت هكذا من الفراغ. يثير إعجابهم مناخ الحريات، ومبادئ المساواة والعدالة، وتكافؤ الفرص الذي يكفله القانون، ويسردون قصصا كثيرة بشأنها، كما لو أنها صور التقطتها كاميرا عشوائية، ويرفضون العلمانية في نفس الوقت، وهي الجذر النظري، بتطبيقاته التي أسست لثقافة ضمنت حرية وكرامة الإنسان. ومع دهشتهم وإعجابهم يستمرون بتمثل ثقافة مأزومة ساهمت بمراكمة كل هذا البؤس.

تناقل الكثيرون -بإعجاب أيضا- انتخاب الكنديين للمرشح "جاستن تريدو" رئيسا للوزراء. شاب وسيم يبلغ 43 عاما، رأى فيه الكنديون ممثلا للمستقبل الذي يتطلعون إليه، لم يكن لينال إلا استخفافا وتجاهلا من معجبين، محكومين بثقافة أبوية لا يزال التقدم في السن معيار الحكمة والمعرفة لديها، وترتاب في قدرات الشباب، وترى في حماسهم رعونة وطيشا. هم أنفسهم يفضلون انتخاب عجائز محافظين ومنفصلين عن لغة الحاضر وهمومه، ويثقون بوزير كهل وإن لم يقدم إنجازا واحدا، فعلى الأقل لم يكن وزيرا "ولدا"! وما لا يمكن فهمه انبهار المعجبين بتشكيلة وزارة "جاستن تريدو" الوزارية، التي رأوا فيها تجسيدا لدولة الحرية والتعددية والمواطنة؛ لأنه اختار الكندي من أصول هندية سيخية "هارجيت سينج" وزيرا للدفاع، ووزيرة مسلمة لاجئة من أصول أفغانية، ووزيرا مقعدا لوزارة شؤون المحاربين القدامى. انبهارهم تمثيل صارخ لازدواجية شخصية مجتمعات متناحرة طائفيا ومناطقيا بهاجس الاستحواذ والهيمنة، وطبقية ذكورية تضطهد الضعفاء، وأخرى تراتبية قبلية، تشغلها الأصول القبلية ومزاياها، وتقصي الآخر "الغريب" المجنس منذ عشرات السنين، أو تحرمه من الجنسية، مع التشكيك بوطنيته وانتمائه.

مجتمع الحرية والعدالة والمساواة طموح شعوبنا، لكن تحقيقه يتطلب دفع أثمان باهظة، والتنازل عن أوهام صارت تعادل الحياة، كما يحتاج جهدا شاقا وعملا متواصلا، ونحن كسالى، نريد كل شيء. ما ينجزه الآخرون وما يعيشونه هناك عظيم، ويمكن أن نصفق له، إن ظل بعيدا عنا!

تعليق عبر الفيس بوك