هل استثاركم قَدْح التاريخ؟

زينب الغريبيَّة

نُشِر في إحدى الصحف الخليجية مقالٌ سطحيٌّ لكاتب لا يكاد يُعرف اسمه، عن نَسب جزء من التاريخ العماني لبلاد أخرى، شهد التاريخ بذاته على أن ما ورد في مقالته لا يُمثل شيئا من الصحة، إلا أنَّ ما استثار اهتمامي ودهشتي ليس المقال في حد ذاته، فلم أرَ ما يستدعي الإثارة فيه ولا الغَيْرة؛ لأنَّ ما بُنِيَ على باطل فهو باطل بطبيعة الحال لا يحتاج إلى تمحيص ولا إثبات، فما لفتني هو استثارة الجمهور من المثقفين والكتاب والعامة كذلك، وشحذ الهمم للدفاع، وإظهار الغيرة على سلب التاريخ واستمرار هذا المسلسل الهزلي الذي يمارسه أفراد من تلك الدولة المجاورة.

هنا.. أقفُ برهة لأستوعب الأمر؛ فمن ذا الذي أطلق شرارة لتحدث كل هذا الدوي؟ وما الحقائق التي جاء بها؟ أليس من الهزل أن يجد منا كل هذا الاهتمام بما طُرح؟ أليس من الهزل أن نعمل على نشر كلامه وتداوله لنشعره بأهمية ما كتب، وأنه يعلم أن كلامه ليس له أساس من الصحة، إلا أنه نجح في استثارة شعب بأكمله، بقصد الدفاع عن تاريخهم، وغيرتهم على موروثهم الحضاري من أن ينسبه أحد لغيرهم، هل نكتفي بأن نبرز شخصا ما لم يكن شيئا مذكورا وبنى أقاويله على غير منطلق ولا قاعدة بحثية صحيحة، لنكون بذلك قد دافعنا عن تاريخنا وأظهرنا نخوتنا وفزعتنا لوطننا.

هل أصبحنا بلا حيلة ولا قوة حتى تستثيرنا كلمات رميت لنا في سنارة كطُعم من صياد جاهل أراد أن يتسلى بمنظر الأسماك في البحيرة، التي لا تعي أن ذلك طعما فتركض نحوه لتلتقمه ظنا منها أنه يقدم لها طعاما، وإذا به طُعما ليتسلى بمنظرها وهي تتفانى في الحصول على الطعام، ربما تكتشف بعدها أنه طعم ليتسلى بمنظرها، وربما لا تكتشف ذلك، بل يظل ذلك في قلب الصياد.

أليس بالأحرى أن نعمل بهذه الغيرة في محلها؟ أليس من واجبنا البحث والتقصي -كل في مجاله- لنصرة ذلك التاريخ والتراث الحضاري وتوثيقه للحفاظ عليه من الضياع مدعوما بالأدلة والتوثيق العلمي؟ كجهود متزامنة شعبا ودولة، لنلجم بذلك كل مدَّعٍ -سواءً سطحيًّا أو عميقًا- بما هو مبرهن وثابت بما لا يدع مجالا للشك، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى علينا التحرك في الجهة الأخرى وهي الحاضر الذي نعيشه؛ لنثبت للعالم أننا بالفعل نحن أبناء من صنعوا ذلك التاريخ، نحن السلالة التي تمثل استمرارية حضارة رمت بجذورها في عمق التاريخ الإنساني مقدمة للعالم وجودها في أصعدة عدة.

أن نعمل على أنفسنا، ونُبرز علماءنا ونشجع العلم والبحث، وعدم محاربة من يعمل ويجد، بل نشد على أزره لإحراز التقدم؛ فلا يمكن -في الحقيقة- أن يحدث ذلك التقدم إن ظل الحال بمحاربة أصحاب القلم من الجهات المختصة من ناحية ومن قبل معظم البعض من ناحية أخرى، ومحاربة أصحاب الفكر والثقافة لبعضهم، ومحاولة هدم بعضهم البعض، من أجل أنْ لا يظهر فلان ويكتسح اسمه الساحة وأبقى أنا في الظل؛ فالمعيار هنا ليس بهدم الغير، وأن نبقى كلنا بلا إنتاج حتى نرتاح من أنه لا ظهور لأحد على الآخر، بل بالسعي والمنافسة في الإنتاج، وأن أقدم أكثر مما يقدِّم هو، وبذلك سيحدث الفرق، دعه يعمل، وأنا أعمل، ليتراكم العمل ويتسع، ونكون قد أسهمنا في التقدم.

إنني أرى في بلدنا هذا من الإمكانات والطاقات ما لا يتوافر في بلدان مجاورة لنا، من الهمة وحب العمل، وإمكانية العمل والعطاء، فقد زرت كل الدول المجاورة، وقضيت أوقاتا كافية مع من يعتبرون أهل الفكر والثقافة، ولمست الفارق بين ما عندنا وعندهم، وإننا بالفعل قادرون -مقارنة بهم- لا ينقصنا سوى توحيد الرأي والهمة من أجل المضي، وأن ينظر كل منا لما يعمل هو بنفسه وما ينجز، وما يستطيع أن يقدم، ويطور من نفسه للإنتاج في مجاله، وليس لما ينتج غيره ومحاولة هدمه، والاستنقاص من صنعه.

تركيزنا على بناء الجيل القادم، بالتربية والتعليم؛ تعليم المعرفة والمهارات والقيم والاتجاهات السليمة إنما هي سلاحنا لخوض المستقبل بكل ثقة، جيل معتز بهويته، يعرف كيف يحافظ عليها، ويقودها في طريق التقدم والانفتاح، يضيف إليها ما لا يشوِّهها، إنما ما يزيدها عزة ومتانة، مضيفا إليها ما يجعلها صامدة على مدى العصور.

عندما نَعِي كلَّ هذا نكون قد أمسكنا بزمام الماضي والتاريخ والحضاري لأنفسنا، وساعدنا على استمراره في حاضرنا وامتداده، وأننا خير خلف لخير سلف. وضَمِنا استمراره في المستقبل، لنكون وطَّدنا بذلك أهليتنا كقائدين للحضارة وصانعيها، حينها فقط سنصل لمرحلة نكون فيها قادرين على أن نصنع حياتنا بأيدينا، محافظين على صلابة الأرض التي نقف عليها، حينها لا تهزنا ريح عابرة، ولا حتى ريح مصممة لنا وموجهة لاقتلاع جذور راسخة لا يكمن تحريكها بأية حال.

Zainab_algharibi@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك