شتاء في المباركيّة

عهود الأشخريّة

مدخل:

"متعب والمشقة في قلبي لا في الطريق" (1)

في طفولتي أتذكر كيف كنا نخترع ألعابًا تمثلنا لوحدنا خصوصًا نحن الفتيات، منها لعبة أساسها أنّ كل واحدة منا تنشىء بيتها الخاص بطريقة معينة شرط ألا يقترب أحد منه، فتكون لها طريقتها في التزيين وتجميع الألعاب والقطع الصغيرة ودفاتر التلوين وغيرها.. كنا في ذلك المكان الصغير نجد قدرتنا في الاستقلال عن كل شيء يحيط بنا حتى الفتيات الأخريات.

إن الأمر ذاته يتكرر الآن حتى وإن كان بطريقة أكثر تعقيدًا، ليتحول من مجرد لعبة إلى طريقة للحياة، فيما يعني أننا نخترع لنا ما يعيننا على تكوين ذواتنا دون تدخل من الآخر سواء كان الآخر القريب أو حتى البعيد، لكن الأمر لا ينجح غالبا لأسباب تخص المحيط التي يعيش حولنا والمتمسك بالصفات التي لا يمكن أن يغيروها في الوقت القريب باعتبارها شيئًا مقدسًا، لكن المهم هنا أننا لا نستطيع أيضا أن نعتزل بآلامنا الخاصة بعيدا عن كل شيء لا نستطيع إلا أن نعيش أدوارا لكائنات كثيرة ومشاعر مختلطة لا تمثلنا، بذلك تتحقق النبوءة التالية:

"سوف تخسر نفسك

ثم تموت عليها كظل

يحاول ألا يموت عليها

وتعرف بعدك أنك كنت طريقا

ولست طريقا إلى ما تريد

ولست طريقا" (2)

حين زرت الكويت لأول مرة في الفترة الماضية كنت أفكر في البلدان التي تصلح أن تكون توأمًا لأرواحنا، البلدان التي ليس من المهم أن تكون بعيدة أو أسطورية، وليس مهما أيضا أن تكون وفق شروط معينة، لكننا نبحث فقط عن مكان فيه متسع لنطلق عصافير ذواتنا المفقودة في مساحة أكثر اتساعا بعيدا عن القفص، ليس بالاتساع المكاني لكن بالمساحات الحرة بعيدا عن الأشياء التي يقدّسها المجتمع، إننا دائما نبحث عن مفر من كل شيء، من أنفسنا حتى ومن آلامنا التي لم نستطع أن نحملها باستقلالية مطلقة ومن رؤانا الخاصة ومن طرقنا المناسبة في الحياة.

في صباحات المباركية التي لا تُنسى وفي شتاء بارد وكريم علينا بقصائده المائية كنت في كل مرة أخرج فيها وتمطر السماء أردد ما قاله سعدي يوسف ذات يوم: "سأفتح نافذة، كي يدخل ضوع صنوبرة بعد المطر"، قلتها وأنا أؤمن أنني سأفتح قلبي للأشياء الجميلة التي ستبلله من مطر وأغانٍ وحب حتى تزهر حدائقه بعد كل الأشياء التي أدت به إلى الخواء حتى هذا الألم التي حملته كي يذهب بعيدا وتنمو في مكانه أغنية حتى وإن كانت صامتة.. لكنه في الحقيقة لا يرحل.

بينما كنت أرتدي (الشال المصنوع من الصوف) حتى أحارب البرد القارص وأنا أستعد للتعرف على سوق المباركية وكل زاوية منه؛ يبدأ شريط الذكريات بتمرير بعض المشاهد أمامي فتظهر فتاة كانت تقف في منتصف الرحلة، لا راغبة في المواصلة ولا العودة، تستيقظ من جديد وترغب بأن تتغير أشياء كثيرة، فرصة للأغنية والقصيدة والنهاية وأيضًا فرصة للحياة من جديد، تقرر أن تكشف وجهها أن يقول الوقت أنه يكبر سنة أخرى، تسمع جيدا الصوت الذي في داخلها فتسمع صرختها الأولى في وجه العالم، بكاء العمر وتفاصيل أخرى تشبهها ولا تشبهها، لقد تشكلت بعد تلك اللحظة مثل طائر مهاجر، وكانت زهور الأم تزحف إليها وتجرّ معها صلوات عالقة، أمها التي كانت سجّادة صلاة، وفي عينيها محراب صامت لكل المارين في سفر القرنفل... لكن الأم نائمة الآن.. فأي الحدائق ستزهر؟ وأي زهرة ستطلق شذاها ضد خراب العالم؟ (يقف الشريط)

هذه الفتاة كانت أنا، والقصّة تخصني لوحدي.. كيف يدور شريط الذكريات هكذا في وسط زحام سوق المباركيّة في اللحظة التي كنت أبحث فيها عن هدايا مناسبة للأصدقاء؟ لم لا توجد قدرة للزحام في أن يُنسيني ألم تعلّق في الروح وأنا التي كنت أبحث عن سفر يأخذني من كل شيء؟! إذن فحتى تلك اللعبة التي حاولت أن ألعبها مجددا بطريقة مركبة لم تنفع في أن أستعيد جزءًا من طاقتي نحو مواصلة الطريق.. لا أريد الآن أن أؤمن بما قاله محمود درويش: "أنا مثلهم لا شيء يعجبني، ولكني تعبت من السفر"، لأنني لم أتعب بعد، لا زال الطريق متاحا نحو ألم أكثر عمقًا أحمله وأمضي به إلى اللانهاية.

عدت من هناك وأنا أحمل هذا الألم الذي كتبته ذات يوم لصديقة ما (هربت من حزنها إلى بلاد بعيدة، لكن الحزن تجذر في قلبها لا في المكان).

(1) بسام حجار

(2) أحمد الفارسي

Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك