التدريب والابتعاث

سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟(25)

د. صالح الفهدي

دَخَل رئيسُ قسم نُظم المعلومات على مسؤول التدريب ليطلبَ منه السفر لحضور معرض للتقنية المعلوماتية، فتعلَّل الأخير بعدم وجود الموازنة لمثل هذا الملتقى، بعدها تفاجأ الأوَّل بإرسال موظفين من دائرة أخرى ليس لهم علاقة إطلاقاً بالملتقى!

إذا كان التدريب والابتعاث أداتين لتنمية الموارد البشرية، فإنهما لم يوظَّفا التوظيف الصحيح في أغلب مؤسسات القطاع الحكومي من جهة نظري طوال العقود المنصرمة، وأقرب دليل هو ضعف المخرجات، وهشاشة النتائج في تحسين الأداء، وتفشي البيروقراطية، وتعقيد إجراءات المصالح الحياتية في جميع مناحيها!

... إنَّ هذه الجوانب لتعدُّ -في اعتقادي- جوانبَ استنزاف مالي وهدر وقتي وليس تنمية بشريةً هادفةً؛ لأنها لم تبن على أسس صحيحة، ولم تقرن بإستراتيجية واضحة المعالم..! فالأسس الصحيحة هي الميول والاستعدادات لدى الفرد من ناحية، وتحديد طريقة تحسين الأداء، وتطوير فاعلية العمل لدى المؤسسة من ناحية أخرى. أما الإستراتيجية فتلك التي تضعها المؤسسة لتحقيق أهداف مرسومة تريد الوصول إليها ويشكل المورد البشري أساساً لها؛ فإن كانت واضحة المعالم بينة الأهداف فإنه من السهل توجيه المورد البشري لخدمتها، وإن كانت مفتقدةً أو غامضة فإن تطوير المورد البشري سيكون ضرباً من العبث!

يقول أحد المسؤولين الكبار في إحدى مؤسسات القطاع الحكومي: "ما نقوم به في جانب التدريب هو مجرد اجتهادات لا تسير وفق خطة محددة"..! الإشكالية إذن تبدأ من فقدان الإستراتيجية الواضحة التي تسير عليها المؤسسة، فما هي الموجهات التي تساعدها على تطوير كوادرها البشرية في ظل فقدان الإستراتيجية..؟! وما هي الأهداف التي تأمل الوصول إليها من خلال ابتعاث أفرادها للتعليم أو التدريب..؟! أكاد أجزم أنَّ الأغلبية الكبيرة تفعل ذلك ليس إيماناً بالتدريب والإبتعاث، وإنما لأنَّ هناك بندًا للتدريب والابتعاث يجب استنفاده قبل أن يستقطع لتغطية البنود الأخرى..! ولأنه أصبح "عرفاً" من الأعراف الإدارية التي يقاس عليها نجاح أية مؤسسة بحسبة الأرقام لا العائد المعرفي..!

تقول الملكة إليزابيث ملكة بريطانيا: "كلُّ شيء يتعلق بالتدريب؛ يمكنك فعل الكثير إن تم تدريبك بالشكل الصحيح"، لكن ما هو حاصلٌ في الواقع يناقض ذلك مبدأً ونتيجة..! إذ فضلاً عن فقدان التدريب للإستراتيجية فإنه يفتقد إلى الخبراء، ناهيك عن المديرين، الذين يمتلكون القدرة على التخطيط والملاءمة بين التطوير المؤسسي والتنمية البشرية، فيستطيعون انتقاء الدورات التدريبية ذات العلاقة الدقيقة بالتخصصات أو المهن أو الوظائف، فالمؤسسات التدريبية أغلبها ذات طبيعة نظرية، عمومية الطرح، لا تقترب من ملامسة واقعية العمل في تدريباتها، كما أنها ذات منهجية مكررة يندر فيها الخروج عن المألوف!

... إنَّ المؤسسات على اختلافها إن لم تتمتع بمساحة واسعة تتيح حرية الإبداع فإنه من غير المجدي لها صرف الأموال من أجل تطوير الموارد البشرية، فما قيمة اكتساب فرد لمعلومة، أو لمنهجية معينة لتحسين أداء من لا يستطيع توظيفها في عمله؟! يقول (Goethe): "المعرفة وحدها لا تكفي دون التطبيق، والإرادة وحدها لا تكفي دون العمل"؛ لهذا فإنَّ فقدان مساحة الابتكار والإبداع في أغلب المؤسسات إن لم يكن أجمعها قد حرمها من الاستفادة السليمة من معطيات التدريب عندما تتحصل له عوامل النجاح!

أُدرك بأنَّه سيتبادر إلى أذهان الكثيرين عامل الحسد من المسؤولين في تحليلهم لضعف الاستفادة من مخرجات التطوير البشري، لكن هذا الأمر لا يعنيني هنا بقدر ما تعنيني المعايير العملية التي يبنى عليها القرار، والمضمون، والعائد. لقد أصبحت الكثير من الدورات عبارة عن نزهة من النزهات، أو إجازة من الإجازات، وليتها كانت كذلك لو وجهت التوجيه الحسن، ووظفت التوظيف الملائم لكنها في الأغلب لا تخدم المؤسسة إلا ما ندر منها!

وإنه لمن نافلة القول أن المحاباة تلعب دوراً كبيرا في إرسال الموظف الفلاني إلى دورة ما؛ إما أن يكون في غنى عنها، أو أنه ليس الفرد المعني بها..! لكنها على كل حال فرصة للحصول على مكافأة، أو إجازة ما فترى الكثير من الدورات تتزامن مع الإجازات الصيفية أو الفصلية للمدارس لتناسب العائلة بأكملها!

أمَّا في الابتعاث؛ فالأمر سيان إذ إنَّه غير مبني على أسس واضحة المعالم على المبررات التي تدفع باتجاه ابتعاث فرد ما إلى دراسة تخصص معين، كما أنه يفتقد إلى الرؤية المستقبلية لما سيكون عليه ذلك الفرد بعد انتهاء بعثته الدراسية! إن أسئلة جوهرية يجب أن تطرح بجدية، وشفافية، وصدق هنا من قبيل: لم أبتعث فلاناً دون غيره..؟ ما هي الحاجة العملية الماسة لابتعاثه؟ ما هو العائد المعرفي على أداءه العملي؟ ما هي الخطة التي وضعتها بل واعتمدتها له بعد مباشرته للعمل؟! هذه الأسئلة وغيرها لو أنها طُرحت بتجرُّد تام من أية عوامل شخصية غير المعايير العملية الواضحة لنالت المؤسسات الحكومية خير الابتعاث، لكن ما يحدث أن أغلب الخريجين من كوادر المؤسسات حين يعودون إلى مؤسساتهم بعد سنوات من الدراسة إما أن يعودوا إلى وظائفهم السابقة وكأن شيئاً لم يكن، أو أنهم يقصون بطريق أو بآخر وكأنهم قد ارتكبوا جريرة استحقوا على إثرها العقاب..!! وهذا للأسف إهدارٌ للمورد البشري والمال العام والزمن التنموي..!

إنَّ نظرةً إلى الأسباب الدافعة إلى الابتعاث لتحمل المرء إلى التفكير مليًّا فيما يحدث؛ فأحد المبتعثين حين جُوبهت محاولاته الحثيثة بالرفض لتبوُّء منصب رفيع، لم يجد مسؤوله المتعاطف معه من وسيلة لإرضائه سوى ابتعاثه للدراسات العليا، لكي يسرِّي عنه بعض ما كابده من شعور بالضيم؛ إذ لم يكن الأمر بيديه لتحقيق مأرب مرؤوسه..!! أما الآخر فإنه يبتعث لخصومة ما في جهة عمله فيرتب له السفر والابتعاد عن تلك الأجواء المكدرة بالخواطر، المنغصة بالنفوس، وثالث كان عمله قريباً من صاحب القرار كفيلاً بابتعاثه، وعدد ما شئت من أسباب لا تجد من بينها -إلا القليل- من المبررات الوظيفية التي بُنيت وفق معطيات وأهداف جلية، ورابع وخامس وسادس كان حظهم أنهم في دائرة التدريب والتأهيل والابتعاث؛ فقاسوا لأنفسهم وصمموا ورسموا ونفذوا ما أرادوا وفق رغباتهم وأمزجتهم!

إنَّني أُؤمن بأنَّ دورةً عملية في مجال العمل لستة أشهر تغني منافعها المؤسسات الحكومية أو غيرها عن ابتعاث لدارسة الماجستير لعامين كاملين، وأقل هدراً للمال..! فالتدريب العملي هو أعمق أثراً، وأجدى فائدةً لصقل قدرات الموظف عملياً، وتحسين أدائه الوظيفي، وتوسيع مداركه الفكرية في بيئة أكثر تقدماً من بيئة عمله.

لا يُمكن ترك التدريب والابتعاث للأمزجة والأهواء والرغبات والمصالح الشخصية والتقديرات الفردية؛ لهذا فإنَّ جدوى التدريب والابتعاث تتحقَّق حين يقترنان بخطة طموحة واضحة الخطوات، صريحة الأهداف أما غير ذلك فهدرٌ للمال، وخسرانٌ للكادر البشري نفسه لأنه لم يوجه التوجيه الصحيح، وإبطاءٌ لأداء المؤسسة لأنه لم يقدم لها شيئاً بل استنزف مواردها، وعطل قدراتها البشرية دون منفعة تذكر!!

... إنَّ تطويرَ الموارد البشرية على أهميته القصوى لبناء الأوطان، وتطوير الفكر الإنساني، وإنماء المهارات والقدرات البشرية، فإنه لن يُؤتي ثماره إلا وفق إستراتيجية وطنية عامة تتشعب منها كل الخطط التفصيلية الأخرى ليسير الوطن قافلة واحدةً، متكاملةً، متحدة دون أن يتأخر عنه ركبٌ أو تضل عنه جماعة في طريق الحضارة الإنسانية.

تعليق عبر الفيس بوك