عصي مكفهرة ومخمل ناعم في الحظيرة

رحاب أبو هوشر

يبدو أنَّ مصطلح التدجين لم يأت اعتباطا، أو كان محض مصادفة فقط؛ فالدواجن من بين الطيور ربما تكون الوحيدة التي تملك أجنحة "فلكلورية"، تبدو زائدة عن حاجاتها ووظائفها، لطول نسيان استخدامها، بل ونسيان وجودها ذاته، فليس أودع وأكثر استكانة وقلة حيلة، وتعرضا للذبح والأكل كالدواجن. لا تطير، وليس لها مخلب جارح، لتدخل معارك حتى لحماية حياتها إذا داهمها خطر، وأقصى ما يصدر عنها -وقد حفظت مآثر الاستكانة- أنْ يتململ صوتها بالنقنقة احتجاجا، دون أن تتحرك من مكانها. وإن كان الموت يقترب لا محالة، انتظرته بعين مغرورقة، ونفس راضية بمصيرها مهما يكن.

أُختير المصطلح بعناية، مُمثِّلا لفلسفة تخدم تقليم أجنحة من تتوق عقولهم وأرواحهم للتحليق، وأظافرهم إذا نمت بخربشات مخالفة للمحفور في الألواح منذ عقود، بل منذ قرون، تحجب عنهم أكسجين التساؤل والشك، وتجرعهم هواءها الآسن، مثل سم بطيء الزحف، يقتل ولكن بصمت، ليسقط وعيهم في الغيبوبة، ويهرعوا للانضمام "بإرادتهم" إلى مجتمعات من الداجنين والداجنات، وهو شرط للانتماء لحظيرة المجتمع والخضوع لشروط العيش فيه.

لا نُبالغ بالقول إنَّ أعدادَ المدجنين بازدياد، حتى إنَّ المصطلح يوشك على الاندثار، وعلى الرغم من شيوعه لسنين مضت، فإنه قلما يذكر أو يسمع اليوم، لأنه اليوم احتل الواقع كله، وأصبح التمرد والرفض ومحاولة التمايز، من مخلفات حقبة تاريخية، تثابر ماكينة كونية عملاقة، ذات أذرع مبسوطة على كل البشر، على محوه وشطبه، حتى من الذاكرة.

أما من لم تصل إليهم محاولات التقليم بعد، أو من يستميتون في مقاومة تحويلهم إلى كائنات داجنة، فما هم إلا جزر معزولة، لا يجري بينها إن جرى إلا حوار طرشان، يصلح لمديح اللاجدوى وافتقاد الأمل، أو هوامش تضيق عليها المساحات، محرومة من التواصل والوصول لفضاءات أكثر اتساعا، وممنوع عنها النور والهواء، وأمل المنتظرين أن تلفظ أنفاسها، دون أن ينتبه لها أحد.

لم تعُد هناك حاجة لأساليب التدجين الكلاسيكية، تلك مرحلة انقضت، حين كانت العصا الغليظة، والوجوه المكفهرة تلاحق "الناشزين"، كانت العصا معروفة الاتجاه، والوجوه واضحة الملامح، تعلن موقفها تهديداً ووعيداً بقطع الأرزاق، وحجز الحريات، ومنع الكتب ووسائل الفكر والمعرفة، وحقن العقول بوجبات إعلام رسمي كان الوحيد آنذاك، وحصارهم بريبة المجتمع والنبذ من قبل أسرهم، حتى تخر قوى البعض منهم، فيعودون مكفرين عن خطايا عقولهم المتفلتة من القيود، وأرواحهم الجامحة بالعنفوان، وعندها فقط كانت تفتح لهم البيوت والأحضان، ويحتفل بهم، كما يحتفل بعاص يتوب عن ذنوبه وآثامه، وترهيبا لسواهم ممن قد يخضعون لنفوسهم الأمارة بالسوء. وفي لحظة دخول هؤلاء الحظيرة، سيسمعون نقنقة دجاج منشغل بالتقاط الحبّ الموضوع أمامه، فيدخلون طقس التدجين من غير أسئلة!

لا نقول إنَّ الحقبة الكلاسيكية انتهت، ولكنها تراجعت في الظل كاحتياطي لا غنًى عنه، وتقدمت عليها مرحلة من التدجين المخملي، ناعم وبراق، بياقات منشاة بالغة الأناقة. تدجين قادم من بعض أماكن الرفض القديمة. مثقفون وأكاديميون يمتدحون فضائل القناعة والرضى، يحاربون القيم الإنسانية الأصيلة، ويسخرون من الحالمين والمغامرين. يستخدمون براعتهم في الإنشاء اللغوي، ومواهبهم الشخصية في التزحلق والتسلق، لتعداد محاسن وضع الرأس بين الرؤوس والقول "يا قطاع الرؤوس"، يهيمون في كل وادي، كي يثبتوا لنا أننا نعيش مرحلة متقدمة، في الحريات والإبداع والتفوق.

والمهمة الكبرى من نصيب إعلام قطع أشواطا في التدجين، عبر تمجيد الحياة في قيمة واحدة هي المال، وصولا إلى مسخ الإنسان، وتحويله إلى ماكينة غبية تدفع الأموال لشركات تبيعه الأوهام، وتجعل منه سلعة لاهثة خلف إعلاناتها ووعودها، وهو الباقي في فقره وعوزه وشلل عقله وقدراته، ليعود مجرد كائن بيولوجي، لا يثير فضوله إلا برامج مخصصة للطبخ والتهام الطعام، وعري تخصص له ساعات بث طويلة، تعرف أي موضع يستوجب تغذيته، وبرامج تجهيل وخرافات تقوم بدورها الفعال في غسيل الأدمغة، وجعلها في حالة دوار دائم.

الآن لدينا بشر أودع من الدجاج، تم طهيهم بعناية على نار هادئة، أما العقل فلا مطرح له في هذا الزحام، بضاعته كاسدة، ولا يريده أحد؟

ويكفينا أن المجتمع في واقعه، فقد تعدديته الثقافية والسياسية إلى حد كبير، وهذا بحد ذاته سلطة ترهيب قمعية تمارس التدجين. من يأت بفكرة جديدة ويحاول طرح أسئلة نقدية، أو يمارس احتجاجا حقيقيا على سيل الخواء والتفاهة، ستهطل عليه اللعنات وما أسهل اتهامه بالكفر حتى يقضى عليه، فهو مطالب بأن يكون دجاجة، تأكل ما يوضع لها، لا تشكو ولا تشاكس، ولو ضاقت بها الحظيرة، أو اختنقت في هوائها الفاسد، وإن كان الموت ما ينتظره، كان عليه ألا يقلق أيضا، فلن يتخلوا عنه، سيدفنونه وربما يدعون له بالرحمة.

تعليق عبر الفيس بوك