جزء من ذاكرة ساذجة

مريم العدوية

كان يوماً غائماً والمنازل مزدانةُ بمصابيحِ النيون الملونة ورائحةُ الحنّاء تعبقُ في الأزقةِ وأصوات الزغاريد تستفزُ الأرواح لرقص دونما سبب أو لربما لأسباب لم تأخذُ من التبرير كفايتها! كان كلُ شيء يوشي بفرحِ قادم لا يليقُ بالحارةِ القابعة خلفَ السورِ الممتدَّ بجبروت أساطيرهِ مستأسداً على حماقاتِ الزمن وعبثِ البشر، تلكَ الأساطير التي قررتُ ألا أكبرَ وأظلُ أؤمنُ بها وأسندُ على سذاجتها تعب الأيام وضجر العُمر الذي لم ينضجُ بعد! كانت عيونُ الصغيرات تندسُ خلفَ الستائر، خلفَ النوافذ وخلفَ كلِ فسحة محاولة استراق أخبارِ العرائسِ الأربع اللواتي كُنَّ يومها أيقونتنا المقدسة، وكانت من بين الصغيرات الصغيرة التي يستوطنُ رأسها جنيُّ طيَّب عرفت مؤخراً بأنهُ ليس كأي نوعِ من الجن؛ فلا يمكنُ لتمتمات المشعوذين ولا حتى للعصا وإن كانت مُحناةِ أن تُخرجهُ من دماغِها القابع داخل ما لا تستطيعُ هي جسهُ من الأعماق، تحشُرُ الصغيرات أجسادهنَّ حيثُ تأمرهنَّ الفتاة الأكبر منهنَّ ربما بعامين أو أكثر كأيِ قائدِ حق على شعبهِ إطاعته والتسليم لأوامرهِ... كانت الصغيرة تلمح طيف الجنيَّ بعمامتهِ ولحيتهِ البيضاء المسترسلة إلى الأرضِ يرتلُ حكاياتهِ للحالمين بعالمِ ملائكي. والصغيرات يتبعن خطوات الفتاة الأكبر منهنَّ كصغار البطة في مجموعةِ تجعل شغلها الشاغل البحث عن ألعابِ جديدة تسفك بها دم الوقت الطويل.

هل أمطرت السماء يومها؟

أم بكت؟

سار الخبر كالنار في الهشيم، زهرة عروس خامسة لليلتنا.

تَعجب الجنيَّ، لماذا تعتبر الصغيرة زهرة عروس خامسة وهي خارج حدود هذه الحارة، لم يسألها وعرف بعد ذلك بأن سكان الأرواح تمتدَّ سماؤهم لما بعد هذه الحارة وما بعد هذا العالم السُفلي؟

...كانت الشمس تطبخُ الأدمغة برتابةِ مقيتة على طابور الصباح الذي منذُ أن تأسست المدرسة يسوّفُ وعد وضع مظلة على مربعهِ الكبير بعض الشيء في عيون الصغيرة. الصغيرة تقف بتململ بفستان المدرسة الحليبي وربطة الظهر الشوكولا، بينما زهرة تقف في الصف المقابل بمريولها الأزرق كحلم لا يريد أن يقترب وشاء الرب أن لا يقترب أبداً. وبعد الأسبوع الأول من العالم الدراسي وجدت الصغيرة لسانها يخرج كل بضع دقائق ليلعق شفتيها، كانت تعقد حاجبيها لتحجب الشمس عن عينيها، ولكنها أبداً ما استطاعت أن تطول أكثر وأكثر لتصبح بقامة زهرة! وفي صباح السبت من الأسبوع الثاني قررت الصغيرة أن لا تردد مدرسة صفا، انتباه حرّة؛ حاولت أن تجد معنى لهذه الصيحات ولم تجد... إذا كانت المدرسة صفا لأن الطلاب يصطفون فلماذا نردد بعد انتباه حرة، هل المدرسة أم عُمان الحرة هنا؟ هل كانت زهرة تردد السلام السلطاني أم مثل الصغيرة الشقيّة تُتمتم بحكاياتها عوضاً عن ذلك؟

مرت ذات يوم أبله أنسام والعصا بيدها كان يبدو طويلاً أكثر من المُعتاد، حاولت الصغيرة مقاومة الخوف من ضربات العصا، صمدت ولم تردد أهازيج السلام السلطاني الذي كان على وشك الانتهاء، أبله أنسام اقتربت.. هل رأتها؟.. تصمد الصغيرة بينما تلتفت أبله أنسام إلى الصف المجاور وتشير لزهرة!

عرفت الصغيرة بعدها بأن برنامج الإذاعة المدرسية بطريقة ما لم يعد له وعلى زهرة معالجة المشكل وإسعاف المنصة، تناست الصغيرة الشمس التي ما انفكت تلفح الوجوه بلهيبها... زهرة على المنصة الآن وكان ما عليها هي أن تصغي جيداً. في ذلك اليوم -إن كان للسماويين ذاكرة- ستذكرين يا زهرة برنامج الإذاعة المدرسية الذي قدمتِ فيه وطالبة أخرى مناظرة بين مؤيد ومعارض لدخول أمريكا للعراق... كُنتِ تؤمنين بأن صدام مشكل ولكنَّ أمريكا سوف تكون المشكل الأعظم... بالمناسبة دخلت أمريكا وانتصرت وانتصر صدام كذلك وخسر الشعب كالمعتاد وكم هو عجيبُ تأريخنا العربي ومفاجئ فلقد صيّر صداماً شهيدا!

آه تلكَ قصة طويلة ربما سأحيكها لكِ في ثرثرةِ أخرى، ربما السماويون يشاركوننا ذات الأوجاع بأرواحهم، هل فتحتِ باباً لجراح العراق... سيخذلكِ الأمل، غدونا نحملُ على أكتافنا ألف عراق، ألف فلسطين... ثمة قاعدة عربية حفظناها (الجروح لا تلتئم بل توَّلدُ جراحاً لا نهاية لها)!؟.

تعليق عبر الفيس بوك