الشورى

سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟(24)

د. صالح الفهدي

أخْبَرني أحدُ أعضاء مجلس الشورى أن امرأةً اتصلت به وطلبت منه أن يوصلَ رسالةً لها إلى إحدى الجهات؛ فرد عليها قائلاً: إنَّ هذا ليس هو دوره، وإنَّ ما يمكنه فعله هو ضمان وصولها هي إلى الجهة المعنية.

حين يُختزل الفَهْم المجتمعي لعضو مجلس الشورى في وظيفة "ساعي البريد"، وحينَ ترفد صناديق الاقتراع من لا يملكون الكفاءةَ التي تُؤهلهم لهذه المهمة الدقيقة والعميقة، ذات الأثر والبُعد على مستقبل الوطن، فإن العملية بأكملها تحتاج إلى مراجعة!

... إنَّ الشورى ذات قيمة عُليا من قيم الوطن لأمرين مهمين؛ الأول أنها أضحتْ سلطةً تشريعية؛ الأمر الذي يعني أنها أهم سلطة بين السلطات الثلاث -التنفيذية والتشريعية والقضائية- والمعنى يجليه الوصف في كل سلطة. أما الثاني، فإنها تتعلَّق بمواصفات وسمات معينة لا تتوافر في أي إنسان، وإنما في أناس وهبهم الله الحكمة، والرأي السديد، والخبرة والتجربة، والرؤية الواسعة، والنظر المتعقل في مجريات الأمور وعواقبها. يقول سيدنا علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- للأشتر النخعي عندما ولاه مصر: "وليست تصلح أمور الناس، ولا أمور الولاة إلا بإصلاح من يستعينون به على أمورهم، ويختارونه لكفاية ما غاب غيهم، فاصطف لولاية أعمالك أهل الورع والعفة والسياسة والصق بدوي التجربة والعقول والحياء من أهل البيوتات الصالحة وأهل الدين والورع، فإنهم أكرم أخلاقاً وأشد لأنفسهم صوناً وإصلاحاً وأقل في المطامع إسرافاً، وأحسن في عواقب الأمور نظراً من غيرهم فليكونوا عمالك وأعوانك".

فإنْ وَصَل المجتمعُ إلى اختزال عضو مجلس الشورى إلى مجرد "ساعي بريد" يُوصل الرسائل من المواطن إلى جهة ما، وإن وصلت به الحال إلى سطحية الاختيار، وإن وصل بالمترشح لهذه الوظيفة الوطنية الرفيعة إلى مساومات مالية، ودفع رشاوى من أجل الحصول على منصب فإن الأمر برمته يحتاج إلى إعادة نظر!

لَيْس الهدف من الشورى أن تدفع مغمورين ليصبحوا وجهاء في مجتمعهم، يحملون ألقاباً شرفيةً بعد أن كان البعض منهم مجهولاً في أدنى الواجبات الإجتماعية..! وليس الهدف منها أن تنشأ سعاة بريد لإيصال الرسائل للحصول على المساعدات، واستخراج القطع السكنية وغيرها من المصالح..! وليس الهدف من الشورى أن تبعث ذوي ألسنة حداد، قادرين على سلق المسؤولين وإطلاق الكلمات الطنانة والرنانة في وجوههم، أو يمتلكون قدرة اللحن في القول والتسويف في وجه كل مواطن..! وليس هدف الشورى ملء الكراسي البرلمانية وحسب..! بل إنَّ هدفَ الشورى أن ترسم للوطن خطاً دقيقاً في كل تفاصيل التنمية في عالم المعرفة، ذلك العالم الذي أصبح اقتصاده ليس اقتصادَ وفرة مادية وإنما اقتصاد معرفة..! تلك المعرفة تحتاج إلى ذهنيات متوقدة، وعقليات متوهجة، ونفسيات خلاقة، وأفكار مبدعة، وما لم تتوافر هذه المعايير -إن جاز لنا التوصيف- فإنَّ خللاً سيُصيب عملية الشورى.

هدفُ الشورى هو أن يكون للوطن مرجعياتٌ وطنية/شعبية حكيمة لا تمثل القبيلة، ولا المذهب، ولا غير ذلك لتكون ممثلاً حقيقياً لكل المواطنين. هدف الشورى أن يستند الوطن إلى أصوات الحكمة في حراكه التنموي، وإلى رشد العقل في بنائه التاريخي، وإلى حنكة السياسة في وجوده الحضاري.

إنَّنا في عالمٍ يحتاج فيه كلِّ وطن إلى العقول المنفتحة التي "تفكر عالمياً، وتعمل محلياً"؛ إذ أصبح العالم مُترابطَ العلاقات، متأثرَ الصلات، إنْ اهتزَّ أوله تردَّد صداه في آخره..! عالمٌ لا يعترف إلا بالمنافسين الشرسين من الأوطان التي أصبحت كالشركات العابرة للقارات؛ الأوطان التي تقودها الكفاءات من أبنائها والتي تمتلك سمات القدرة على مواجهة المتغيرات، والفهم الدقيق للمجريات، والتفسير الحصيف للاتجاهات؛ لهذا فإنَّ عملية الشورى إن لم تدفع إلى القبة البرلمانية أناساً يحملون هذه السمات البارزة، والقدرات الرفيعة فإنها تعاني من إشكالية يجب معالجتها، ولا يمكن المضي قدماً في ظل معاناتها من خلل واضح، وإشكال بيِّن.

إنَّ أوَّل شروط الشورى هي الوعي الإجتماعي بقيمة الشورى، وهذا لا يتأتى بتطواف للجنة إعلامية قبيل الانتخابات، وإنما هي عملية تأسيسية تبدأ في البيوت والمدارس ومختلف المؤسسات الحكومية والاجتماعية. عملية ترتكز على مجموعة من القيم، وتنمو عليها وفق منهاج واضح مثل قيم التسامح والتقدير للآخر، والحوار معه، والاحترام للرأي، وسعة الصدر، وقيم أخرى يطول الحديث فيها. وحين يكون المجتمع مُؤهلاً للشورى وفق هذه العملية التأسيسية، فإنه يدفع إلى المجلس بمن يرى فيهم الكفاءة، دون اعتبار لانتماء قبلي، أو مذهبي، أو طائفي أو جنسي أو عرقي.

لقد نالتْ المرأة في مُجتمعنا نصيباً وافراً من التعليم حتى أصبح الجيل الحاضر من الفتيات يفُوْق الشباب في طرق التفكير، والنظرة، والرأي..! لا أقول ذلك عبثاً وإنما عبر مشاهداتي عن قرب في زياراتي للجامعات والكليات والمدارس والتجمعات المختلفة.. ومن هذا المنطلق فإن غياب المرأة عن الشورى يُعدُّ واحداً من أكبر الإشكاليات المجتمعية. هذا الأمر جعل إحدى الأكاديميات تقترح نظام الكوتا؛ وهو ما يعني حصة من كراسي المجلس تُخصَّص للمرأة من أجل إسهامها في التنمية وصنع القرار، كما هو الوضع في فرنسا والمغرب والأردن والسودان...وغيرها من الدول. إنَّ هكذا اقتراح لم ينشأ من فراغ، وإنما هو إفراز ثقافة تسود المجتمع الذي لا يزال الانتماء القبلي فيه والتحيز الجنسي الذكوري مسيطراً عليه في دولة المؤسسات..! الوطن يحتاج إلى المشاركة الفاعلة للمرأة وقد أثبتت كفاءتها، وقدرتها في مناحي عديدة، فإنْ لم تدفعها صناديق الاقتراع الى سُدَّة البرلمان بحجة الاستقواء الذكوري على مصادر القرار، أو القدرة على الدفع المادي للناخبين...أو غير ذلك من الأسباب، فإن هذا الأمر لا يجب أن يمضي دون وقفة مراجعة سريعة، من أجل تلافي هذه الإشكاليات في الدورات القادمة.

إنَّ وُجُود عضو للشورى لا يفقه أبجديات الشورى هو عبءٌ ثقيلٌ ليس على المجلس وحده، بل على المجتمع بأسره! فقد أصبح صاحب شأن رفيع، يحمل لقب "سعادة"، وربما أرفد لاحقاً بلقب "الشيخ"، كما أضيفت "المشيخة" لكل من لبس العمامة وهو قبل ذلك لم يكن له من الصيت، والشأن، والفكر ما يذكر..! وأصبح يقرع الوزراء والمسؤولين على عدم مقابلته إن جاءهم دون موعد ليطلب مصلحةً ما!

لقد تواصل معي بعض المرشحين لمجلس الشورى من ولايات مختلفة، جلست معهم لصياغة أفكار، وإيجاز عبارات، واختزال خبرات، فاحترمت منهم هذا المسعى الجديد الذي رأيت فيه احتراماً للمجتمع الذي يأملون في دعمهم لهم. إنهم لا يملكون المال الذي (قد) يعوض به البعض نقائص في سيرته، لكنهم يريدون أن يحسنوا تقديم أنفسهم، وأفكارهم لكي تكون جسر عبور لهم في اختيارات الناخبين.

ومع ذلك، لمست فيهم ذلك القلق الداخلي من أن منافسيهم يملكون الإغراءات التي يقدمونها لكسب أصوات الناس، وقد صدقوا في ظنهم فلم يفز أغلبهم!

... إنَّ وَضْع معايير مُحدَّدة، ورفع السقف للكفاءات المطلوبة لعضوية مجلس الشورى هو أمرٌ بالغٌ الأهمية؛ فالباب المفتوح دون معايير ثقافية وشخصية -إلا النوادر- قد دفع كل من أراد أن يرشح نفسه من مواضع تكاد تكون مجهولة الصيت اجتماعيًّا وثقافيًّا إلى قبة مجلس يمثلون فيه مجتمعاً فيه من الكفاءات والقدرات ما تفوقه علماً وفكراً..! وقد يسأل سائلٌ لِمَ لا يرشح أصحاب الكفاءات والقدرات أنفسهم لمجلس الشورى؟ أقول ما قلته سابقاً لمن سألني نفس السؤال: حين تكون الكفاءة هي المعيار الأعلى، فإن أصحاب الكفاءات عندها سيقدمون على خوض غمار المنافسات؛ لأنهم يعلمون تماماً أنَّ من يُنافسهم صاحب كفاءة إن تقدم عليهم ففي ذلك مصلحة للوطن، أما أن يخوضوا في سباق لا يفوز به إلا جامعو أكبر الأصوات، ودافعو أكثر الأموال فإن الأجدر بهم إلا يقدموا على هكذا عمل!

بإيجاز.. الشورى ثقافة وطنية لا بد لها أن تتجذَّر في المجتمع بعُمق لكي تحقق أهدافها لبناء الوطن، والحفاظ على مكتسباته، وصيانة منجزاته، ورسم طريق مستقبله، ووفقاً لهذا المفهوم فإن الاعتناء بها تربويًّا وتعليميًّا وعمليًّا أمرٌ لا حياد عنه، فهذه المساقي وحدها التي تضمن نشأة مجتمع يعي قيمة الشورى، وأهمية ممثل المجتمع، وقيمة التشريع.

تعليق عبر الفيس بوك