بين لينينجراد وسانت بطرسبرج

عبدالنبي العكري

كان لي مَوْعد مع سانت بطرسبرج، هذه المدينة العريقة الساحرة، مرتين في العهد السوفييتي، فقد سبق لي أن زرت مدينة لينينجراد (كما كانت تسمى في العهد السوفييتي) أو سانت بطرسبرج كما أضحت تسمى حالياً. حيث كانت أول زيارة لي بمناسبة انعقاد مؤتمر التضامن الآسيوي الإفريقي في العام 1978، وكان من بين الحاضرين النائب السابق عبدالهادي خلف، والطالب حينها د.سلمان غريب، وقد أقر في المؤتمر اعتبار 11 ديسمبر، وهو اليوم المصادف لأول انتخابات نيابية في البحرين في 11 ديسمبر 1973 كيوم للتضامن مع شعب البحرين دعماً لنضاله من أجل الديمقراطية وعودة المجلس الوطني الذي جرى حله في 26 أغسطس 1975، حينها لم يكن هناك وقت كافٍ للتعرف على المدينة، ولم تبقَ في ذاكرتي سوى أطياف الزيارة. أما الزيارة الثانية، فكانت مناسبة سعيدة وهي قضاء شهر العسل المتأخر على الزواج في أغسطس 1987 مع رفيقه العمر أفراح محمد سعيد، وهي من المناسبات النادرة التي نعطي أنفسنا فيها إجازة. وحيث إننا كنا ضمن فوج سياحي انطلق من سورية، وشملت زيارتنا مدينة سوتشي على البحر الأسود وموسكو وأخيراً لينينجراد، فقد توافرت لدي الفرصة للتعرف على المدينة بشكل جيد. فقد تمَّ ترتيب جولات في المدينة مع شركة انتورست الروسية، وزرنا متحف الأرميتاج طوال يوم وتجولنا في شارع نيفسكي الشهير بمقولة لينين "الثورة ليست مستقيمة كشارع نيفكسي"، والذي يبلغ طوله أكثر من 3 كيلومترات، كما أُخذنا في رحلة بحرية إلى القصور الصيفية للقياصرة المطلة على خليج فنلندا وذكرتني في معمارها وتصميمها وجمالها بقصور فيرساي الفرنسية، ولا عجب فقد استعان القياصرة بالمعماريين والمهندسين والرسامين والفنانين الفرنسيين في تصميم قصورهم ومتاحفهم، حيث ارتبطت روسيا وفرنسا بعلاقات تاريخية حميمة. أما الزيارة الثالثة والتي تباعدتْ طويلاً عن الأولى، وشهدتْ تغييرات هائلة فقد كانت بمناسبة انعقاد الدورة السادسة لمؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد خلال 2-6 نوفمبر 2015 ضمن، وفد منظمة الشفافية الدولية مع الصديق شرف الموسوي رئيس الجمعية البحرينية للشفافية.

وكعادتي ألاَّ أفوت التعرف إلى المدن وناسها ومعالمها فقد بقينا ليومين إضافيين في سانت بطرسبرج، وهذا هو اسمها في عهد روسيا الاتحادية، والذي تمَّ اعتماده تيمناً بالقديس بطرسبرج، وبمؤسس الإمبراطورية الروسية مطرس الأكبر في استفتاء لأهالي المدينة. وتشاء الصدف أن أسكن في فندق بريبا لتسكايا الذي سكنت فيه في رحلة 1978 لشهر العسل، مما جعلني أستعيد ذاكرة تلك الرحلة، ومعالم الفندق والمحيط والمدينة ككل ومقارنات لا تنتهي بين نمط الحياة حينها ونمط الحياة الآن، والتحولات في الزمان والمكان والبشر والمعالم. حال وصولنا إلى مطار موسكو بدأ سيل الذكريات والمقارنات، لأول وهلة هناك التحول من التقشف إلى الفخامة في تجهيزات المطار، وهناك العديد من شركات الطيران المحلية المتنافسة على السوق، فيما كانت الإيرفلوت سابقاً تحتكر السوق، ومع المنافسة هناك تحسن للخدمة. كما أن معاملة الهجرة والجمارك تمت بسلاسة وبسرعة. أما المفاجأة الثانية، فكانت في مطار سانت بطرسبرج الحديث جدًّا، والذي يضاهي أفخم المطارات الغربية مع لمسات فنية، فقد كان في استقبالنا شباب وشابات جامعيون متطوعون للمؤتمر يتكلمون مختلف اللغات بما فيها العربية خلافاً للسابق، فقد كان الروس المتحدثون باللغات الأخرى قليلين. ومن خلال الحديث معهم أثناء مرافقتهم لنا في الباص الذي نقلَنا من المطار إلى الفندق، عرفنا أنَّ هناك اهتماماً كبيراً باللغات الأجنبية وآدابها، حيث هناك المعهد العربي في جامعة سانت بطرسبرج مثلاً. وبالفعل فقد اعتمد سير وخدمات المؤتمر والذي انعقد في مجمع المعرض على هؤلاء الجامعيين المتطوعين، بدءاً من الإرشاد خارج وداخل المعرض والترجمة، والمرافقة، وتقديم الخدمات المتنوعة، وبفضلهم جرى المؤتمر والذي شارك فيه أكثر من 1500 مندوب من 180 بلداً بسلاسة. حديث المؤتمر له مكان آخر، ولكن ما أود الإشارة إليه، أن المضيف الروسي رتب لنا حفل باليه في مسرح بالكوفا وهو أول مسرح أقيم في روسيا في 1756، ويتسم بالفخامة والرقي الفني. وهكذا وعلى امتداد ساعتين استمتعنا بمشاهد رائعة من الباليه الروسي ومنها "بحيرة البجع" و"آنا كارنينا"، والتي شاهدناهما كاملتين على خشبة المسرح الوطني في البحرين وأدّتها باليه سانت بطرسبرج، وخارج أعمال المؤتمر أتيح لنا التجول في المدينة ليلاً، خصوصاً مع مصادفة وجود القريب المحامي حميد الملا وصديقه، وهو من خريجي الاتحاد السوفييتي، في إجازة بالمدينة وكذلك مرافقتنا من قبل الشاب كريم ابن الصديق سلمان غريب مما سهّل مهمتنا ومكّننا من التعرف على معالم المدينة.

أهمُّ حدث في الزيارة هو زيارة متحف الأرميتاج، والذي يُعتبر ثاني أهم متحف في العالم فيما يخصُّ المقتنيات الفنية بعد متحف اللوفر، ويُمكن القول بأنه متحف الحضارة العالمية الفنية؛ حيث كنوز الدنيا والأزمان والثقافات موجودة تحت سقف الارميتاج. يعود ذلك لافتتان قياصرة روسيا بالفنون، خصوصاً اللوحات الفنية وغنى الإمبراطورية الروسية وكونها جسراً بين أوروبا وآسيا. المتحف من ثلاثة طوابق، القبو ويضم كنوز آسيا الشمالية، والطابق الأول ويضم كنوز أوروبا، والطابق الثاني ويضم كنوز ما يُعرف بطريق ابن بطوطة وتشمل كنوزاً من الصين حتى الأندلس. قضينا ساعات في متحف الأرميتاج ولكن مرت بسرعة، ويحتاج المرء إلى أسبوع ليستوعب كنوز الأرميتاج، مع اشتراط إلمامه بالفنون وقراءته المسبقة للموجودات. أما المعلَم الثاني المهم فهو شارع نيفكسي أو "شانزليزيه" سانت بطرسبرج؛ حيث المباني والمعالم التاريخية على جانبيه من كاتدرائيات ونصب وقصور وفنادق ومحلات تجارية. وبالفعل تخال نفسك في الشانزليزيه من حيث جمال المعمار وتاريخية ووفرة المتاجر والمطاعم والمسارح، ولا تمل العين من النظر، وبالطبع زحمة البشر من سياح ومتسوقين، وحيث جميع المنتجات من الماركات العالمية والروسية والتحف موجودة وأسعارها أقل من باريس. صادف وجودنا الحداد على ضحايا الطائرة الروسية التي أسقطت بفعل عمل إرهابي في سيناء وغالبية ركابها من أهالي سانت بطرسبرج، ولذا صمّمنا على مشاركة الشعب الروسي في أحزانه، فذهبنا إلى النصب الحارس للمدينة حيث وضعت باقات الزهور وبطاقات التعازي، ثم ذهبنا الى كاتدرائية ساكيفكايا يوم الأحد حيث أقيم قداس على أرواح الضحايا، وكان حشداً كبيراً، حزيناً إلى حد أنه ألغي الاحتفال بعيد النصر على الفاشية.

مدينة سانت بطرسبرج شبيهة بمدينة فينيسيا، حيث يخترقها نهر النيفا ويتفرع إلى ثلاث نهيرات هي: بولسكايا ومالايا وشايا، لتصب في مياه خليج فنلندا، كما تخترق المدينة قنوات شقها القياصرة، حيث هناك ما يقارب الـ150 جسراً، يعتبر غالبيتها قطعاً فنية. بدأ بناء المدينة من قبل بطرس الأكبر على جزيرة زايشي وهي عبارة عن قلعة تضم قصراً وكنيسة وثكنات احتفاء بانتصار روسيا على السويد التي كانت تحتل المناطق المحيطة بالمدينة إضافة إلى فنلندا والدنمارك والنرويج. ويذكر هنا أنه بعد انتصار روسيا جرى تحرير فنلندا ووضعها تحت الحماية الروسية بحكم ذاتي. ومع انتصار ثورة أكتوبر العظمى في 1917، فقد دعم البلشفيك حزب تحالف عمال فنلندا، والذي فاز في الانتخابات، وقرر برلمانها الاستقلال عن روسيا، وهو ما قبله لينين بكل أريحية. كان لابد من رحلة بحرية في نهر الفيفا وفروعه، وكانت رحلة ممتعة أتاحت لنا التعرف إلى معالم المدينة، وميناء سانت بطرسبرج، وإصلاح السفن ومن خلال شرح الدليل يظهر أن القياصرة استعانوا بمهندسين من الدنمارك وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا لإقامة مجمعات من القصور والحدائق وغيرها تحمل معالم تلك البلدان، بل وجلبوا سفن الفايكنغ كمعالم ورموز لانتصاراتهم على السويد. من خلال الحديث مع مرافقينا يتضح أن هناك إمكانيات سياحية وثقافية وتعليمية للمدينة، والتي كانت عاصمة القياصرة وروسيا بمستعمراتها لما يقارب قرنين ونصف، وهي الأكثر قرباً من أوروبا الشمال والحضارة، وخصوصاً أن التعلم بالإنجليزية متاح. وما آمله أن تنشط السياحة مع سانت بطرسبرج المبرّزة في الفنون والجمال، وأن يتوجه طلبة الدراسات الجامعية والعليا للمدينة لما تتميز به من تقدم أكاديمي وعلمي، وأن ينشط التبادل الفني الرسمي والخاص، فهناك عالم آخر غير الغرب، يبرزّه في الرقي والحضارة والمعارف.

تعليق عبر الفيس بوك