مُتناقض..!

هلال الزَّيدي

مَعَ دَوَران عقارب الساعة تدورُ الأفكارُ وتتقاطع وجهات النظر بين البشر.. فترتمي إلى حُضن الواقع لتشكِّل تجاربَ ومعارفَ لا يُمكن أن تتكرَّر إلا إذا كان الحضن يضج بدفء المشاعر؛ لذلك فنحنُ نُطالب أنفسنا بأنْ لا ندفع بكل أوراقنا إلى واقع الحياة، وكذلك علينا أنْ لا نندفع في بسط الذراعين لمجرد أنها وجدت مأوى لها؛ فالبشر مُختلفون ومتغيرون، وتساورهم العجلة في فهم الأقوال، فيحملونها على حين غرة، ويصدرون أحكاما قاسية في مجملها، فيطفقون في تجريح الذات المقابلة -والتي تعتقد أنها وجدت فيهم المرسى الآمن- فتتفجر الأوصاف المليئة بالاحتقار، والموسومة بالتناقض.

الساعة الواحدة فجرًا بتوقيت الحياة المنتشية بحب الوجود.. ذلك الكيان كان يُطل من شرفة غرفة استأجرها في أحد الأحياء الراقية في شارع لا يتوقف من كثرة البشر عندما يقصدون مدينة العالم، لرؤية أطول برج شيده الإنسان في العالم؛ فمع انتصاب تلك الناطحة التي بُنيت من أجل أن تهوي إليها أفئدة خاصة من العالم الآخر، كان هذا الكيان يحاول مجاراة هذا العالم المتغير في أيقونة العيش، محاولا أنْ يجد تفسيرا لما يراه؛ فبدأت الأسئلة تتسلَّل إلى عقله الموغل في الخيال.. مردِّدا بين الفينة والأخرى عبارته الشهيرة: ما أعظم العرب العاربة والمستعربة عندما تريد أن تظهر نفسها ويكون لها كيان.. فهذا البرج يُمثِّل قوة العزيمة لديها، لكن: لماذا لا يُمكن أن تكون مثل هذه العزيمة في علاج الجرح العربي الغائر حتى الشرايين؟ ولماذا لم نستطع لم شمل العروبة التي أنهكها الشتات وانتهكتها الحروب في كل بقعة كان يستظل تحتها البدوي؟ ولماذا دفعنا بأغلى شيء لدينا، وتمسكنا ببرج يناطح السحاب؟.. فلو مثلا انهار البرج في جرف هار، فهل سيكون للعرب كيان كما انهار البرجان ذات يوم؟ هنا بدأت الذكريات تعود إلى ذلك اليوم وترسم المشاهد التي أنهكت الحياة.

المشهدُ غريب في كينونته وصيرورته.. والإنسان بجبروته لا يتأثر إلا إذا عاش التجربة؛ فعلى امتداد البصر ومنذ سقوط البرجين في 11 سبتمبر 2001 -إذا أردنا أن نكون أكثر إيجابية مع تجاوز قضية المصير العربي "القضية الفلسطينية وأوضاعها المختلفة"- فقد أصبح الدم العربي "المسلم" دما رخيصا جدًّا، لا يُمكن أن نقارنه بأتفه سلعة يقتات عليها الإنسان؛ فعليه قادت الدول العظمى جحافل جيوشها لدَحْرِه لأنَّه دم إرهابي، ويحتوي على جينات وراثية تدمِّر البشر؛ لذا وجب إراقته وإبادته عن بكرة أبيه؛ من أجل أن يحل السلام في كافة ربوع العالم؛ لذلك فقد وُضِعت الخطط ورُسِمت الأهداف ليتم تنفيذها بشرعية تامة وتأييد من كافة العرب أنفسهم، واحتفاءً بما يحققه الآخرون على أرضنا بأنهم دُعاة سلام وأمان.. فقُلبتْ البندقية لتستقر الرصاصة في قلب مطلقها، وانتشر القناصون ليختبروا إمكانياتهم على أبناء جلدتهم، ولم يحرك ساكنا من كثرة الدم المراق؛ فأقيمت على أعقاب تلك الدماء الاحتفالات المبهرجة بأن الخطط تسير حسب ما خُطِّط لها.

أمَّا برجنا الكبير، فلم يُنكِّس علمه ليشعر العالم بالحداد، وإنما تعالت "نافورته تتراقص على أنغام الروك، ولم تتوشح جنباته بالسواد، وإنما زادت أنواره لتنير تلك الثكنات التي يتمترس فيها ذلك الجندي مرتديا "الكيباه أو الكِبة"، وجمعها كيبوت وتعرف أيضًا باليارمولكه، ليكون تصويبه دقيقا ومتقنا إلى رأس طفل يعبر الضفة الأخرى أو قلب شاب أراد أن يرجع قدسية "القدس" كما قرأناها في تاريخ صلاح الدين الأيوبي.. لينتشي برجنا فرحا ويحني هامته أمام تلك التصويبة الرائعة من قبل ذلك الجندي. أما ذلك الكيان، فيطلق ضحكة قصيرة مليئة بالسخرية على واقعه الذي تمدَّد فيه، قائلا: لماذا هذا الشعور الغريب العجيب؟ ولماذا هذا الحنق؟ فأنا قطعت مئات الكيلو مترات من أجل أن أعطي جسدي المتعب حياة أخرى، وأمنح نفسي شعورَ الحياة في عاصمة العالم.. إذاً، عليَّ أن أكفَّ عن هذا التناقض! ماذا قلت؟ تناقض.. متناقض؟ كم أوجعته هذه الكلمة عندما أفرغتها في أذنيه بكل ما أوتيت من قوة شعور، فهوت عليه ضربا بالسوق والأعناق بناء على فهمها وتحليلها الشخصي.. مرددةً عليَّ أنْ آخذ حذري منك أيها المتناقض.

لِمَ لا؟! فالحذر واجب في هذا الزمان.. لا عليك أيها الكيان، فالبرج شامخ، منتصب القامة يمشي، مرفوع الهامة يمشي، إلا أنه أعلن الحداد وتوشح بالسواد عندما تحوَّل مسرح "باتاكلان " في باريس إلى مسرحية "أكشن".. هنا بدا أنَّ هذا الدم من النوعية الغالية جدًّا ويجب أن يُكاثر؛ لذا فبرجنا العالي حَزِن حزنا شديدا ولم تتراقص نافورته؛ لأنَّ بلدَ الجَمال تتعرَّض لهجمات وحشية. أما قافلة الجِمال فما لها إلا العقر.. وهذا مشهد آخر تتناقض فيه الحياة مع نفسها.

لَيْس من المهم معرفة أسباب ومسببات ما يدور حولك من أحداث، فربما هناك وقائع لا تحتمل التفسير؛ لأنها أوجدت نفسها عبر إفرازات الإنسان نفسه، ومهما عظمت وكبرت في حيثياتها، فالأفضل أن يتأقلم معها الإنسان، وعليه الابتعاد عن إثارة الأسئلة والبحث عن إجابات؛ لأنه وحسب القناعة الفردية هنا أنه لا يمكن أن نقيس جمال الحياة بتدفق العطاء، فربما يفسر ذلك بأنه سذاجة أو ضرب من جنون البقر. هنا يُغلق ذلك الكيان الشرفة، ويرمي بجسده على ذلك السرير، متجولا بين القنوات الفضائية التي تنقل الأحداث، وتتقن فن التناقض، والتحاقد؛ ليقرِّر أنَّ عليه إطفاء ذلك الصندوق المتلف للعقل والفكر والداعي إلى التناقض، من أجل أن تسترخي لديه الأعصاب المشدوده فقط.

-------------------------

همسة:

"مهما ارتفع البرج ليعانق السحاب، فربما تحته متسوِّل من شدة الحاجة لا يجد ما يأكله. ومهما وضعت كل ما عندك من شعور، فلا يمكن أن يفهم الآخر كما تفهم نفسك. ومهما حاولت أن تقدِّم تضحيات للحياة، فلا بد من تفسير يجنح خارج الإطار، وعليك أنْ لا تنظر للخلف، لكن يجب عليك أن تتقن فن الصمت لكي لا يقال عنك متناقض".

 

* كاتب وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

 

تعليق عبر الفيس بوك