الجهاد بالإنشاد

أسماء القطيبي

لا أذكرُ تحديدًا اليوم الذي تمَّ فيه جلب مُسجَّلةٍ للبيت، وأُرجِّح أن يكون في الفترة التي بدأ فيها أخي بمصاحبة رجال الدعوة -كما يُسمُّون أنفسهم- لكني لا أذكر اليوم الذي نمتُ فيه وأنا صغيرة دون أن يكون صَوْت القرآن حاضرا؛ حيث كنتُ أُنصت مع أخواتي إلى صَوْت القارئ العذب في الفراش حتى يُداهمنا النوم. وبهذه الطريقة تمكنت من حفظ بعض السور الطوال، والتي لم أكُن لأحفظها بسهولة لولا أن الشريط كان يُكرِّر من جهتيه ذات السورة على مدى أيام مُتواصلة قبل أن تنتبه أمي إلى ضرورة تبديله لننعم ببركات سور أخرى. وإضافة إلى أشرطة القرآن الكريم بأجزائه الثلاثين، كان "درج الأشرطة" يحتوي على محاضرات دينية بعناوين لافتة ما زلت أتذكرها إلى الآن، هل كانت تأتينا تلك الأشرطة على شكل توزيعات من رجال الدعوة أم كنا نشتريها من المكتبات؟ لا أدري، ولكني أرجِّح أن عناوين مثل "حين ينتحر العفاف" أو "القابضات على الجمر" لم تكن اختيار أخي المتدين الحديث مثلا، لعلَّه جلب الشريط الذي يُحذِّر من الدش في محاولة إقناع أهل البيت للكف عن مشاهدة القنوات الفضائية!

القسمُ الثالث من الأشرطة كان أشرطة الأناشيد التي كانتْ تدور حول موضوعين لا ثالث لهما؛ فهي إمَّا " بكائيات" على تقصير النفس وضياع مجد الأمة، وقد أُختير لأدائها أفضل المؤدِّين دون تدخل الآلات الموسيقية، وبكلمات تُشعل في نفوس الكبار منا قبل الصغار العزائم والهمم. لتأتي بعدها الأناشيد التي تحثُّ على "الجهاد"، مُمجِّدة الموتَ كوسيلة مضمونة ومؤثرة لرفعة الأمة، داعية إلى التخلص من العدو الذي هو سبب كل مشكلات الأمة، وسبب ضياع شبابها وفساد أحوالها. هذه الأناشيد كانت تعتمد كل وسيلة عاطفية لبث أفكار -تبدو لي الآن- متطرفة وانتقامية؛ فهي لا تمل من تكرار ذكر أم "الشهيد" التي تضحِّي بابنها بكل سرور، بل وتستقبل خبر وفاته بزغاريد وأفراح، وتأكيد على أنَّ الشاب الذي فجَّر نفسه مثلا البطل الذي يستحق الجنة ونعيم الحُور العين فيها.

الأناشيد وحدها وفي سن مبكرة كانت كافية لتشكيل قناعة مُفادها أنَّ العدو ليس واضحا دائما، كما هي الحال مع الصهاينة، وإنما قد يكون الكافر الذي يحسد الأمة على أمجادها الغابرة ويتوجَّس من عودتها، وقد يكون المسلم الذي لا ينتمي لنفس الطائفة التي أنتمي إليها؛ فهو إنْ لم يكن عدوًّا مخرِّبًا فلا أقل من أن يكون عميلا متآمرا. وعلى أساس هذه القناعة، فإنَّ أي شخص لا أعرفه قد يكون ينتمي إلى إحدى الفئتين، وفي حال قرر الشيخ أنه منهما، فقد وقع الحكم عليه.

الانتقام، وسيلة فعَّالة لاستمرار العنف على وجه هذه الأرض، وهو ما كانت تسعى "أناشيد الجهاد" إلى التأكيد عليه، عن طريق استحضار التاريخ، داعية المستمع إلى عدم النسيان، وإلا فإنَّه من المغرَّرين الذين تمكَّن العدو من إبعادهم عن المنهج القويم. قاطعة أي طريق على المتلقي لإعادة التفكير في جدوى القتال في جماعات مسلحة، يتلثَّم أصحابُها حين يظهرون بين فترة وأخرى للحديث عن الخسائر التي تكبدها العدو من وراء المجاهدين، والتي لا تستطيع تكذيبها أو التشكيك في صحتها.

الحق أنَّني كنتُ أشعرُ بالانتماء للأمة من خلال هذه الأناشيد، كنت كغيري من الناس أتُوْق لقضية مشتركة تجمعني بالآخرين، نؤمن بها ونحارب من أجلها، رغم أنني لم أكن مثلا لأقدم نفسي قربانا للقضية مثلا، أذكر أنَّني جمعتُ مع صديقة لي زميلاتنا في المدرسة في فترة الفسحة من أجل ترديد نشيد جهادي، كرَّرنا الأمر عدة مرات، من باب التفاعل مع أحداث العالم التي كانت تبشِّر بـ"فتوحات"، قبل أن يصل الأمر للإدارة ليتم تحذيرنا ونتعهَّد بعدم تكرار الفعلة. حين أتذكر هذا الموقف أبتسم بسخرية، مُتعجِّبة من قوة الكلمة التي كانت تخدِّر الشعور بالإنسانية وترجِّح مشاعر الانتقام ومناظر الدماء، مُعاهِدَة نفسي بأنْ لا أسمح لمثل هذا الأمر بالحدوث مع أي من الأطفال من حولي؛ فالمحبَّة والتسامح هما الأصل، وما سواهما من عنف وكراهية وصراع فإنهم سيشاهدونه لاحقا في نشرات الأخبار.

asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك