الجماعة لا ترحم ضَلال أفرادها!

رحاب أبو هوشر

يختلفُ مفهوم المجتمع الحديث عن مفهوم الجماعات/ التجمعات البشرية؛ فالمجتمع يُؤسِّس علاقاته بالاستناد إلى العقد المبرم مع الدولة، ككيان سياسي مفوَّض من قبل مكونات المجتمع، لإدارة الموارد وتأمين المصالح الاقتصادية والقانونية والاجتماعية، وتقديم خدمات الرعاية والحماية لأفراد المجتمع. أمَّا الجماعات فإنها تتبنى قوانين خاصة بها، وتتوافر على تركيبة تحقق وتحمي مصالحها، وإن تعارضت أو اصطدمت مع سواها من الجماعات، أو مع الدولة ذاتها باعتبارها كياناً يقوم على فكرة المؤسسات لا الجماعات، وعلى الأفراد بأنهم مواطنون، أي أنهم أبناء تلك الدولة، وليسوا أبناء لجماعات.

ما زلنا نخُوْض صراعات المرحلة الانتقالية نحو المجتمع الحديث، مع انتكاسات وشروخات لمفهوم "المجتمع" ذاته، لصالح الجماعات والتجمعات، بثقافتها وعلاقاتها المتجذرة، والجلية الحضور والتأثير اجتماعيًّا وثقافيًّا، ورُبما يتأتى ذلك من أصول نشأتها، المستندة إلى النظام الأبوي، وهي خلفية تتناقض مع مفهوم الدولة الحديثة. انصهرت الجماعات عبر تاريخنا، في فترات صعود الدولة العربية الإسلامية، الأموية والعباسية، بغض النظر عن مرجعياتها الإثنية والدينية والإقليمية في فكرة المجتمع الواحد، إلا أنَّ نظام الدولة ظل متشبثا بسماته الأبوية المستبدة ثقافيا واجتماعيا، معاديا للفردية والأفراد، دون حدوث أي اختراق يعتد به حتى اليوم.

وفي داخل ما ندعوه مجتمعا، ثمَّة جماعات تتواطأ ما بينها، وهي اليوم أكثر نشاطا، في تقويض فكرة الدولة الحديثة والمجتمع، واستلاب الأفراد حقهم بالمواطنة، لتحفظ سلطتها وتحكم سيطرتها عليهم، منعا لهم من فك قيودها والخروج على قوانينها، التي لا تتناسب مع تطلعاتهم الإنسانية، أو مع تغيُّر الواقع وتطوره.

وأهم الخاسرين من ديمومة قبضة الجماعات، هم الأفراد الذين يعانون من تجليات النظام الأبوي الذي تعمل تحت خيمته؛ حيث لا قيمة للفرد خارج انتمائه للجماعة، وليس من مكان لتفكير فردي مستقل وخاص في التفكير النمطي الراسخ للجماعة، وحيث لا بد أن يُعبِّر السلوك عن الجماعة أيضا، يُمثلها ويعكس ثقافتها ومعتقداتها. لا يكترث بقيمة الفرد وقدراته كإنسان متحقق بذاته، يملك الحرية والحق بتشكيل رؤيته ومساراته في الحياة.

... إنَّ ارتباطَ الفرد بالجماعة قديما وذوبانه فيها، انبنى على جملة ظروف فرضتها قوانين اقتصادية بشكل أساسي، تشكَّلت من خلالها قوانين الجماعة. الجماعة كانت تملك مقدرات الحماية والأمان الاجتماعي والدعم الاقتصادي للفرد، فهي من يمتلك أدوات الإنتاج، وبالتالي امتلاك القدرة على تأمين استمرارية العيش؛ سواء كان الاقتصاد رعويا أو زراعيا. وانعدام وجود الدولة، استوجب احتماء الفرد بالجماعة كقوة، يلتجئ إليها بمواجهة الأخطار والاعتداءات. هذا قد يفسر سطوة الجماعة على أفرادها في ذلك الوقت، وإخضاعهم لذهنيتها وأسلوب عيشها، فكلفة مغادرتها ستكون باهظة، وسيدفعونها من بقائهم، كما تدفعها العنزة الشاردة بعيدا عن القطيع من حياتها.

تغيَّرتْ التركيبة الاقتصادية للمجتمع اليوم، على أن ذهنيته الأبوية لم تتغيَّر في إنكارها لحرية الفرد، وفي هيمنة سلوك الجماعة على واقع الأفراد أنفسهم في كثير من الأحيان؛ مما قد يبدو غير قابل للتفسير المنطقي؛ فالأفراد يعملون اليوم بأعمال خاصة، أو بمهن ووظائف لدى الدولة، كما أنَّ الدولة تقوم بواجب حفظ حياتهم وأمنهم عبر قوانينها ومؤسساتها؛ مما يمنح الفرد هامشا حقيقيا للاستقلال عن الجماعة بتفكيره وخياراته، من حقِّ الفرد، كما يمنحه الحق بابتكار أسلوب حياة يلائمه، وإن كان مختلفا عن السائد. من حقه أيضا أن يكون حرًّا في رفض شروط الجماعة وإملاءاتها التي لا تنتمي لفكره وقيمه الذاتيه، وقد تصطدم مع قيمته الإنسانية.

لكن ما يحدث يفارق هذه الاستنتاجات، ويدلل على متانة ثقافة الجماعة ومقاومتها لقوانين الدولة، أو على الأرجح يدلل على هشاشة فكرة الدولة مبدئياً، فكلما حدث توتر في منطقة ما، رأينا أفرادها يصطفون خلف جماعاتهم التي تمثل انتماءاتهم العشائرية والدينية والمذهبية وغيرها، فهم لا يؤمنون حقيقة إلا بانتماءاتهم الضيقة وجماعاتهم الصغيرة، وبالمقابل تستنكر الجماعات فعل أحد الأفراد المحسوبين عليها، إن هو رفض الامتثال لقوانين جماعته، واستقل بموقف أو رأي خاص، والاستنكار قد يبلغ حد الملاحقة والتهديد بالقتل، وفي أحسن الأحوال عقاب ذلك الخارج بحرمانه من الانتماء إليهم.

الجماعة وهي تبني قواعد ثقافتها وسلوكها، لن تسمح باختراق تلك القواعد من قبل أفراد منها، لأنَّ ثمة مصالحَ وتحالفات تاريخية مع غيرها من الجماعات، تعمل كل منها جاهدة للحفاظ عليها، وإلا انكشفت خديعة الجماعة بكونها ملاذا آمنا لأفرادها، لذا نجدها من اللاعبين بفاعلية في إعاقة تكوين الدولة الحديثة، التي ستجرِّدها من القوة والسلطة، وكذلك تعيق أي مكتسب يعزز حرية الأفراد، فكل حق من حقوق الأفراد كمواطنين في الدولة، بمثابة هزيمة لأركان نظامها الأبوي. ويتوجب على المؤمنين بفرديتهم، أن يظلوا متأهِّبين لدفع الثمن؛ فالجماعة لا ترحم العصاة. أما من كان إيمانهم بأنفسهم موضع شك، فعليهم أنْ لا يغامروا بالتحدي إن كانوا سيسقطون في أول اختبار، ويعودون لبيت الطاعة.

تعليق عبر الفيس بوك