المرور الناجح بين كلِّ المحاور

زاهر بن حارث المحروقي

أن تقف بين أكثر من محور على مسافة واحدة وتحتفظ بحياديتك واستقلالك دون أن تتأثر علاقتك مع أيِّ طرف من الأطراف هو أمر من الصعوبة أن يتحقّق بسهولة؛ ولكن هكذا فعلت وتفعل عُمان دائماً في علاقاتها مع الأشقاء والأصدقاء، رغم اختلاف الرؤى بين السلطنة وهذه الدول، وعلى سبيل المثال احتفظت عُمان بعضويتها الكاملة في مجلس التعاون، رغم اختلاف السياسات الخليجية مع سياسة السلطنة في الكثير من الملفات، منها الملف الإيراني والسوري واليمني، لأنّ السياسة العُمانية مبنية أساساً على عدم التدخل في شؤون الآخرين، إلا إذا كان هذا التدخل إيجابياً، لذا لم تشارك عُمان في إراقة دماء الأبرياء في ليبيا ومصر وسوريا واليمن ولبنان وفلسطين، وهذا بدوره وفّر للسلطنة الاستقرار والقبول عند الآخرين، وأعطاها الفرصة الكاملة لأن تكون طرفاً أساسياً ومقبولاً كوسيط في الأزمات، لأنها وقفت على نفس المسافة بين كلّ الأطراف؛ وهي في الأصل مهمة صعبة أن تكون مقبولاً من الكلّ، وقد نبعت السياسة العُمانية هذه من معرفة القيادة العُمانية بحقائق التاريخ والجغرافيا، إذ إنّ عُمان بموقعها الجغرافي الفريد، هي جزءٌ جغرافيٌ وأمنيٌ لدول الخليج العربية واليمن، وهي أيضاً جزءٌ ملتصقٌ جغرافياً مع إيران، فلا بد لها أن تحافظ على علاقات جيدة مع كلِّ الأطراف، وهذا ما نجحت فيه عُمان على مدى السنوات الماضية؛ فسياسةُ السلطنة سعت إلى تقريب وجهات النظر بين الأطراف المختلفة في المنطقة سعياً منها لتجنيب المنطقة خطر الحروب التي لم تتوقف منذ عام 1981 وحتى الآن، من هنا قامت بدور أساسي لتقريب وجهات النظر الإيرانية الغربية، وكان جلالة السلطان المعظم في مقدمة من قاد جهود الوساطة بين طهران وواشنطن، ولعبت وساطته دوراً أساسياً في الاتفاق المرحلي بين الطرفين.

لقد قامت السلطنة بفضل السياسة الحكيمة لجلالة السلطان المعظم -حفظه الله ورعاه- بالعديد من الأدوار التاريخية ولكن بصمت، (رغم أنّ سياسة العمل في صمت لم تعد ذات فائدة الآن، وكذلك فإنّ العمل لوجه الله دون الاستفادة من الأدوار التاريخية التي قامت بها عُمان من الأخطاء الكبيرة، لأنّ عالم السياسة لا يعرف إلا المصالح)؛ وكلُّ من قابل جلالة السلطان خرج بانطباع طيب وحسن عن مواقفه ورؤاه بعيدة النظر؛ فمثلاً، في كتابه الهام "الرواية المفقودة"؛ يذكر فاروق الشرع وزير الخارجية السوري السابق أنّه رافق الرئيس حافظ الأسد عام 1981، في جولته لدول الخليج ولعدد من الدول العربية، بهدف تطويق الحرب العراقية الإيرانية، ولمحاولةِ انتشال التضامن العربي من حالة ترديه، ويقول الشرع، إنه تكوّنت لديه بشكل مُبكر في تلك الرحلة خبرةٌ وثيقة بسماتٍ أساسية للقادة العرب، حيث عبّر الرئيس حافظ الأسد مع كلِّ القادة الذين التقاهم، عن أنّ توسيع الحرب مع إيران سيقود إلى نتائج مدمرة، منها إعادة الأساطيل والقوى الأجنبية الكبرى إلى المنطقة، وتقسيم العرب، وإضعاف تضامنهم في مواجهة العدو الأساسي للعرب وهو إسرائيل". ويقول فاروق الشرع إنّ "السلطان قابوس كان أكثر من غيره من قادة دول الخليج إدراكاً للمستجدات في المنطقة، وإدراكاً لهذا الواقع الذي فرضته الجغرافيا والتاريخ"؛ وقد سبق أن حدثني د. علي الدين هلال، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة ووزير الشباب في مصر فيما بعد، أنه وجد فكراً نيّراً عند جلالته وأنه يملك رؤية مستقبلية لعُمان وللمنطقة، وأنه يؤمن بالتغيير التدريجي في الأمور ويرى أنّ التغيير السريع وغير المدروس قد جر إلى إراقة الدماء في بعض الأماكن في العالم.

ولقد قامت عُمان بأدوار تاريخية لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء العرب بصمت ودون أيّ ضجيج، من ذلك التوسط لعودة مصر إلى الصف العربي بعد مقاطعة الدول العربية لمصر، وكذلك التوسط عام 1987، بين إيران والعراق لإيقاف الحرب العراقية - الإيرانية، وحاول جلالة السلطان أن يجمع بين الرئيسين "صدام حسين" و"هاشمي رافسنجاني"، وقد هيأت تلك المحاولات الخلفية للجانبين لقبول وقف إطلاق النار بعد عام من ذلك، وكذلك التوسط بين الفرقاء في اليمن عندما اشتدت معارك الانفصال بين شمال وجنوب اليمن، وحتى الآن فإنّ دور السلطنة في الحفاظ على أمن ووحدة سوريا هو دور مشهود، والمثير في الأمر أن يركز بعض الأشقاء على زيارة معالي يوسف بن علوي لدمشق، وزيارة معالي وليد المعلم لعُمان، وينسون أنّ خالد خوجة رئيس الائتلاف السوري المعارض زار عُمان أيضاً، بما يعنى أنّ الدور العُماني مطلوب من الأطراف كافة، فيما نجد أنّ دولاً تمد المعارضات السورية بالمال والسلاح، لم تستقبل خوجة أو غيره، وإنّما عملت على تدمير سوريا فقط، كما دمرت دولاً عربية أخرى.

في عصر تزاحمت فيه وسائل الإعلام، وزاد فيه المحللون والمعلقون السياسيون، وأصبح فيه الإعلام البديل والمُوجَّه هو السائد، وفي عصر تدفع فيه الدول مبالغ هائلة لشراء الفضاء الإعلامي بقنواته المرئية والمسموعة والمقروءة وبشراء ذمم الكتاب، رغم أنّ هذه السياسة قد انتهى زمانها؛ إلا أنّ هناك من لا يزال يلجأ إليها حتى الآن، ويبدو أنّ "البعض" يستخدم هذه السياسة للنيل من المواقف العُمانية التي رأى البعض أنها تغرّد خارج السرب الخليجي؛ ومن ذلك أن يلجأ بعض الكتاب إلى الكتابة في الصحف المصرية مثلاً، وأن تنشر بعض الصحف المهاجرة مقالات فيها الكثير من المغالطات عن السياسة العُمانية ومواقفها تجاه بعض القضايا؛ ومن ذلك أن تخصص صحيفة "العرب" التي تصدر في لندن، الصفحة السابعة كاملة عن عُمان في عددها الصادر يوم 1 نوفمبر 2015، كلها مغالطات، فمن يقرأ المقال يعلم تماماً حجم الأخطاء التي وقعت فيها الصحفية، وكأنّ المقال من المقالات "المدفوعة الأجر"؛ إذ أنّ الصحيفة تناولت بالعموميات فقط، العلاقات العُمانية الإيرانية، وتناولت كذلك العلاقات العُمانية السورية، ورفْض السلطنة لفكرة الاتحاد الخليجي، وذكرت الصحيفة أنّ "دول الخليج كانت قد قدّمت لعُمان مساعدات بقيمة عشرة مليارات لمعالجة البطالة ومشاكل الشباب، ولتحصينها من آثار موجة الثورات، ورغم ذلك فإنّ عُمان لا تتحرج من التغريد خارج السرب كلَّ مرة، وصولاً إلى رفضها توسيع مجلس التعاون، وانضمام الأردن والمغرب إليه".

بعيداً عن أقوال بعض الصحافة التي لا تقدم معلومات موثقة وإنما تعتمد فقط على التحليل الإنشائي؛ فإنّ دول الخليج العربية، تعي تماماً المساعي التي تقوم بها السلطنة لتقريب وجهات نظر الأشقاء، وتعلم تماماً استقلالية القرار العُماني، لذا لا تتدخل فيه، وقد يكون تصريح عادل جبير وزير الخارجية السعودي خير دليل على ذلك، عندما أوضح أثناء مشاركته في الملتقى السياسي والاستراتيجي "حوار المنامة" في الأول من نوفمبر الحالي، أنّ دول الخليج لا تشك في أنّ زيارة وزير الخارجية العُماني إلى دمشق، كانت تهدف إلى تقريب وجهات النظر مع سوريا، وأنّ هذه الزيارة هي مسألة عُمانية في المقام الأول، وأنّ القادة الخليجيين "ليس لديهم أدنى شك في النوايا الحسنة العُمانية، وأنها تسعى لتقريب وجهات النظر، والعمل على تحقيق الأفضل لسوريا".

لقد نجحت عُمان في المرور الناجح بين كلِّ المحاور، ولم يتم ذلك إلا لأنّ عُمان وقفت على الحياد، ورفضت مبدأ التبعية، وآمنت أنّ سياسة فرض الأمر الواقع عن طريق الحروب هي سياسة فاشلة ستعود بالضرر على دول وشعوب المنطقة عاجلا أو آجلا.

تعليق عبر الفيس بوك