وأنجز وعده

صالح البلوشي

"أيُّها الشعب.. سأعمل بأسرع ما يُمكن لِجَعْلِكُمْ تعيشون سُعَدَاء لمُستقبل أفضل، وعلى كل واحدٍ منكم، المساعدة في هذا الواجب..كان وطننا في الماضي ذا شهرة وقوة، وإن عملنا باتحاد وتعاون فسنُعيد ماضينا مرة أخرى، وسيكون لنا المحل المرموق في العالم العربي. كانت عُمان بالأمس ظلاماً ولكن (بعون الله) غدا سيشرق فجر جديد على عُمان وعلى أهلها، حفظنا الله وكلّل مسعانا بالنجاح والتوفيق".

بهذه الكلمات القصيرة تحدث صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم في أول خطاب له إلى أبناء شعبه، بعد استلامه مقاليد الحكم، في الثالث والعشرين من يوليو المجيد، سنة 1970. كان حلماً فتحقق، وكان وعدًا فأُنجز، فكانت ملحمة النهضة المباركة التي استطاعت في سنوات قليلة جداً أن تنتشل عُمان من براثن القرون الوسطى؛ لتنطلق بها إلى عصر النور والتنوير والتحديث في جميع المجالات. كانت خطوة محسوبة بكل دقة ومسؤولية، فقد لاحظ صاحب الجلالة المعظم (حفظه الله) في دراسته العسكرية ببريطانيا، وتجواله في مدنها وبعض الدول التي قام بزيارتها، ومن خلال اطلاعه الواسع على كتب الإدارة والسياسة والفلسفة وشؤون الحكم؛ أنّ العالم يتقدم بسرعة الصاروخ، فقد وصل الإنسان لأول مرة إلى سطح القمر، وأصبحت ثورة الاتصالات والتكنولوجيا تغزو العالم، وتطورت الأنظمة الصحية حتى أصبح كثير من الأمراض الفتّاكة جزءًا من الماضي، ولكن الوضع في عُمان كان مختلفًا جدًا، وعندما كان جلالته يطّلع على أحوال العُمانيين؛ كــان يـرى -والحزن يعتصر قلبه- أنّه يُعاني من الجوع والفقر والأمراض، يراه يرفع أكفه إلى السماء ويدعو الله ليلاً ونهارًا أن ينقذه من هذا الواقع المأساوي الذي يعيش فيه؛ فلا وجود لمدارس يعلم فيها أبناءه، ولا مستشفيات ومراكز صحية يُعالج فيه نفسه وأولاده، ولا وظائف يسترزق منها، ولا كهرباء، وباختصار: لا يوجد شيء، نعم.. كان لا يجد شيئًا وهو يملك كل شيء: النفط والثروة الزراعية والبحرية والمعدنية، إضافة إلى التاريخ والحضارة والموقع الجغرافي الإستراتيجي.

حدثتني إعلامية سعودية زارت السلطنة هذا الأسبوع مع وفد من الإعلاميين والأكاديميين والكتاب السعوديين ونحن نتجول في شوارع مسقط عن سبب وجود هذه الزينة بهذه الكثافة في شوارع مسقط؟ فقلت لها: بأنّ الشعب العُماني كان يعيش أقسى أنواع الحرمان قبل النهضة المُباركة، وكان كثير من أبناء الشعب يعيش خارج البلاد بعد أن ضاق به العيش بالداخل فخرج من البلاد وهو يُمْني النفس أن يرجع يوماً بعد أن تسترد البلاد عافيتها، ولذلك فإنّ ذكرى الثامن عشر من نوفمبر تُعدّ أهمّ مناسبة عند العُمانيين، وينتظرونه على أحرّ من الجمر، وتدخلت زوجتي لتشرح لها عن الظروف التي كانت تمرّ بها قبل سنة 1970، مما جعل من قضية التغيير مطلباً شعبياً عاماً، وهو الأمر الذي تحقق في 23 / يوليو المجيد عام 1970.

لا أريد أن أتحدّث هنا كثيرا عن النهضة المباركة، وإنجازاتها الكبيرة، التي أستطيع أن أشبهها بالمعجزة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ولكن ما أروع أن ننقل خطاب النهضة إلى الآخرين، الذين يتوقون إلى معرفة، ماذا يحدث في عُمان؟ وكيف استطاعت هذه الدولة الفتية أن تُحدث هذه النقلة الحضارية في سنوات قليلة جدًا لا تمثل شيئاً في حياة الأمم والشعوب؟ وهذا ما لمسته شخصياً أثناء زيارة الوفد السعودي إلى السلطنة -التي جاءت بمبادرة شخصية- فقد كان الوفد يضم شخصيات يمثلون تيارات فكرية مختلفة، جمعهم هدف واحد: هو الاطلاع عن قرب على التُّجربة العُمانية في النهوض الحضاري، المتمثل في البناء والتنمية والمواطنة والشورى، ولذلك تم اختيار برنامج الزيارة بعناية شديدة، فقد كان الهدف الأول: هو مجلس الشورى والالتقاء برئيسه وبعض الأعضاء فيه، الذين شرحوا للوفد التجربة العُمانية في الشورى، وكيف تطور، من تجربة المجالس المتخصصة إلى المجلس الاستشاري للدولة عام 1981 إلى مجلس الشورى سنة 1991. ثم كان اللقاء مع سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي -المفتي العام للسلطنة، الذي رحّب بأعضاء الوفد، وشرح لهم في ساعة كاملة المنهج العُماني في السماحة والوسطية والاعتدال في قراءة الدين، وكيف استطاع العُمانيون بمدارسهم الفكرية المختلفة التعايش الاجتماعي بينهم طول القرون الماضية دون أن يُعكّر صفو حياتهم الاتجاهات المتطرفة، التي كانت تحاول بين الفينة والأخرى اختراق هذا النسيج الاجتماعي ولكنها اصطدمت بصخرة الاعتدال العُماني، وقد ترسخ مفهوم المواطنة في المجتمع بعد وصول صاحب الجلالة المُعظم (حفظه الله وأمد في عمره) إلى الحكم عام 1970، فأصبح مفهوم المواطنة هو الذي يحكم العلاقات في المجتمع وليس الانتماء الطائفي أو القبلي. وقد كان لكلمات الشيخ صدى طيبًا لدى المثقفين والإعلاميين السعوديين الذين طلبوا من سماحته أن يبذل قصارى جهده من أجل التقريب بين المسلمين على اختلاف مدارسهم الفقهية والعقدية؛ لانتشال الأمة من هذه الغُمّة التي اجتاحت المسلمين خاصة بعد انتشار الجماعات والمنظمات المتطرفة، مثل: داعش وأخواتها، التي قامت بجرائم ضد الإنسانية في سوريا والعراق وليبيا باسم الدين والشريعة.

إنّ السلطنة وهي تحتفل بعيدها الوطني الخامس والأربعين المجيد تعيش تجربة حضارية بكل معنى الكلمة؛ ولذلك فمن المهم جدًا تعريف العالم بهذه التجربة الفريدة من نوعها، التي أثبتت للعالم أجمع أن الإرادة الوطنية تستطيع أن تقهر المستحيل، وهذا لن يتحقق إلا بوجود قيادة حكيمة ملهمة وشعب وفيٌ ومخلص لوطنه ولقيادته.. وهذا ما تحقق في عُمان.

تعليق عبر الفيس بوك