الطقس الرديء

فيصل الحضرمي

يبدو الطقس الرديء بالنسبة لي مشابهاً لأمر بحظر التجول صادر عن جهات عليا. لكن "الجهات" هذه المرة عائدة على المكان، الفراغ، لا على المؤسسات. ولأن الفراغ غير ناطق، بلا لغة، وبلا متحدث رسمي، فهو أمر ضمني غير صريح، وإن كان واضحاً ومفهوماً بل وقابلاً للتنبؤ به قبل صدوره. وبرغم اتفاق الناس على أن الطقس الرديء عامة هو الطقس المعطل أو المضر مادياً وجسدياً، وهو ما تؤكده الدراسات التي ربطت مثلاً بين البرودة الشديدة وارتفاع ضغط الدم وحالات الاكتئاب التي قد تنتهي بالانتحار، إلا أنّ هذا لا ينفي حقيقة أن الأمر قد يكون ملتبساً أحياناً بسبب عدم اتفاق الناس حول تعريف الطقس الرديء في حالات بعينها. السبب في ذلك هو أن فعل الاعتياد المفضي إلى الضجر والتلهف إلى الجديد المختلف هو أحد المحددات لنوع الطقس المرغوب فيه. هكذا يختلف تعريف الطقس الرديء من مكان إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى، بحيث تطلق صفة الرداءة على الطقس المعتاد حد الإصابة بالملل.

نحن المعتادون على الشمس الحارقة والرطوبة الكاتمة للأنفاس ورياح الغربي اللاهبة الجافة، نهفو إلى السماء المُلبدة بغيومها الرمادية الداكنة، ونهفو أكثر إلى المطر. ننزعج من كلمة "صحو" كلما ورد ذكرها في أخبار الطقس، مثلما ينزعج الإنسان من ضيف كثير الزيارة ممل العبارة. وتبهجنا السماء الغائمة ولو جزئياً كما لو كانت وعداً بمطر، أو تذكيراً بمطر، أو فقط لأنّها تمارس على الشمس اللافحة عملية فلترة وترشيح تخفف من قسوة نظرتها الكاوية.

بالمقابل، في أماكن أخرى تعرفها الفصول الأربعة بكامل حضورها، وتعرف حمامات المطر والفيضانات وربما الصقيع والعواصف الثلجية بكثرة، تفقد السماء الملبدة بالغيوم جاذبيتها وإيحاءاتها الجميلة المعروفة عندنا. لا يحدث هذا السقوط الكبير لقيمة السماء الغائمة فقط لأنها تكون بمثابة نذير شؤم يرهص بقدوم الأمطار والأعاصير والعواصف الثلجية، وهي كلها مقيدات لحرية الحركة والتنقل بشكل عام. وليس فقط لأن ما يترتب عليها قد يتسبب في تعطيل الأعمال ومنع الناس من ممارسة الأنشطة الخارجية. بل وأيضاً لأن اعتيادنا على الشيء يفقده قيمته أو يقلل منها، ويضعف تعلقنا وارتباطنا به. وهو نفسه السبب الذي يجعل المطر أيضاً يفقد ميزته وبهاءه حتى وإن كان على هيئة رذاذ خفيف مسالم لا يُعطل ولا يضر.

على أية حال، ومهما كان شكل الطقس الرديء، يضطر الناس مجبرين إلى عصيان هذا الأمر وخرق الحظر سعياً وراء مشاغل الحياة. وفي أحيان أخرى يقع الخرق نتيجة الاستهتار وعدم المبالاة وبدون مبرر مقبول وبشكل مجاني. خرق يبقى محمود العواقب ما دامت درجة الرداءة ودرجة الخرق ضمن حدود المعقول. أتذكر الآن عمال البناء وإنشاءات الطرق وغيرهم ممن يؤدون أعمالهم تحت هجير شمس الصيف الحامية، دون أن يكون لديهم خيار آخر. كما يحضرني بالمقابل أولئك الذين يعبرون الأودية الجارفة بسياراتهم بسبب قرار طائش أو استعراضاً لجرأة هي بمثابة حماقة قد تودي بحياة السائق ومن معه من الأرواح البريئة خائبة الظن والرجاء.

هناك أيضاً سبب آخر للتمرد على هذا الأمر يكمن في طلب المتعة الخالصة وهو سبب يبدو طريفاً وغريباً في نفس الوقت. فهناك مثلاً مصورون فوتوغرافيون وصانعو أفلام تسجيلية بل وأناس عاديون تخصصوا في توثيق الكوارث الطبيعية من قلب الحدث كما يقال معرضين حياتهم لخطر الأعاصير والبراكين والفيضانات. ويصور فلمinto the eye of the storm" مخرجاً مهووساً بتصوير الأعاصير لحظة ابتلاعه بواسطة عين الإعصار، وتبدو أسارير وجهه في برهة السكون التي تسبق السقوط مباشرة نهباً لمشاعر مختلطة لعل أهمها الاكستازيا، أو النشوة القصوى، والفخر والهلع الشديد.

إذن هل يمكننا القول بأنّ الطقس الرديء له إيجابياته وفوائده؟ هذا ما تؤكده دراسة أمريكية تخبرنا بأن 83 بالمئة من الأمريكان يعتبرون الطقس الرديء مثالياً لممارسة الجنس، وأن 70 بالمئة منهم مارسوه في ظروف مناخية غاية في السوء مثل الأعاصير والزوابع والعواصف الرعدية. وتشير الدراسة إلى أنّ سكان ميامي هم الأكثر ممارسة للجنس في الولايات المتحدة نظراً لأنّ رغبتهم تتأجج أثناء الأعاصير التي تشهدها الولاية كثيراً !

وما دام الموضوع يدور حول خرق حظر التجول بأمر من الطقس الرديء، فإنّه يجدر بي أن أشير إلى أنّ هذا الحظر لا يسري فقط في البر وحده، وإنما يشمل بداهة نطاقي البحر والجو. هكذا تلغى عديد الرحلات البحرية والجوية بل وحتى رحلات الفضاء عندما يكون الطقس رديئاً. ومع ذلك فإن كوارث سقوط الطائرات وغرق السفن التي تقع نتيجة خرق الحظر هذا هي أكثر من أن تحصى. واحد من الأمثلة الكثيرة على هذه الحوادث هو حادثة الطائرة الماليزية أير آسيا التي سقطت السنة الفائتة بسبب تحليقها في أجواء مناخية سيئة أدت إلى تراكم الجليد في محركاتها. هل ينبغي لي في النهاية أن أضيف الجشع كسبب آخر محتمل من أسباب خرق هذا الحظر؟ بكل تأكيد.

تعليق عبر الفيس بوك