نشأة النظام الأبوي (٢)

أمل عامر السعيدي

ما تحاول الكاتبة غيردا ليرنر دراسته عبر كتاب (نشأة النظام الأبوي) هو إمكانية وجود نظام أمومي يُشير إلى عدم كونية الخضوع الأنثوي، أيّ أنّ المجتمعات البشرية عرفت شكلاً آخر من أشكال العلاقة بين الرجال والنساء فيما يتعلّق ببناء هذه المجتمعات والعيش فيها. وحتى وإن كانت الباحثة تدرس الكثير من المخطوطات والرموز والأديان للتوصل إلى هذه الحقيقة ولم نستطع إثبات أيًا من هذه الافتراضات فهي بلا شك تمهد لإيجاد تفاسير يُمكننا بها أن نؤسس رؤية جديدة. في هذا المقال أتابع مناقشة كتاب (نشأة النظام الأبوي) لغيردا ليرنر، وافتح صفحات الفصل الثاني من هذا الكتاب.

تشرح الكاتبة في هذا الفصل أهمية أن نتخلص من وضع النساء في دور الضحايا، وأن نبدأ فوراً بطرح السؤال التالي: "متى بدأ تاريخ النظام الأبوي؟" مما يجعل الحالة الحاضرة معنا اليوم، هي مجرد حدث في التاريخ، مما ينفي عنها صفة الأزلية والحالة التي وجد عليها العالم منذ البداية. فهي تقول "إنّ منح نظام الهيمنة الذكورية موقعاً تاريخياً، والجزم بأنّ وظائفه وتجلياته تتغير مع مرور الزمن، يعني القطيعة الحادة مع التراث المنقول"، يجب أن نؤمن إذن بأنّ هذا النموذج الحاضر إنما هو نتيجة تفاعل مجموعة من العوامل، التي سنخضعها للاختبار من أجل وعي جديد يساعد الرجل والمرأة على حد سواء. وتؤكد غيردا ليرنر على أهمية اعتباره ذا موقع في التاريخ بقولها "إن الجندرة، بخاصة، تمتلك في معظم المجتمعات دلالة رمزية وقوية، وكذلك أيدلوجية، وقانونية، بحيث لا نستطيع أن نفهمها بصورة صحيحة إلا إذا انتبهنا إلى مظاهر معناها كلها". إن هذا كله حسب تعبير غيردا ليرنر يمكن أن يفتح أعيننا على مناطق جديدة من التفسير والفهم، أي أنّه يشرع نافذة الاحتمالات، احتمالات تم إسقاطها في التاريخ الذكوري المدون.

تتحدث الكاتبة في هذا الفصل عن تطور الإنسان عن الحيوانات الرئيسة وتأثير هذا التطور على جسم الإنسان، من ثمّ الحمل والإنجاب، وكيف استطاع الإنسان أن يبدأ باكتشاف قدراته عبر سلسلة من التجارب العملية، ليتمكن فيها من التعامل مع جنينه (طفله)، وفي خضم مواجهته لهذه التجارب، يقولب الإنسان مجموعة من التعليمات والأطر الثقافية مما ينفي أي خصائص بشرية "فطرية". لذلك فإنّ الانتقال للبحث عن الطعام مثلاً، مرحلة تسميها غيردا بالحاسمة في دفع التطور البشري، فالدماغ تطور في أثناء هذه المواجهة الجديدة التي يخوضها الإنسان من أجل تأمين قوت طفله وأكثر من وجد نفسه مدفوعاً بإلحاح نحو هذه المواجهة هي الأم، لذلك يجب أن نفهم من هذا كيف أن دور النساء كان متفوقاً في أثناء تقدم الإنسان من ذلك الإنسان المنتصب القادم عن الحيوانات الرئيسة إلى الإنسان المتطور. إن هذا لم يجعل الأم تتطور فحسب، بل وضعها اجتماعياً في موضع الآلهة، محل السؤال، محل اللغز الكبير، لغز الإنجاب والبقاء.

ثم تشرح الكاتبة كيف أنّ التقسيم الجنسي للعمل استند على فروق بيولوجية، حيث إنّ وظيفة المرأة الآلهة في الحمل والإنجاب ووجود القبائل واستمرارها عبر هذه الوظيفة الموكلة إلى الأم، وطول فترة الطفولة التي جاءت بسبب انتصاب جسم الإنسان وانتصاب حوض الأم، مما يعني خروج الطفل في حالة لا يستطيع فيها العناية بنفسه، جعلت الكثير من الأمهات يتنازلن عن أدوارهن في الصيد، ومتابعة الطرائد الكبرى، نظراً للثقل الذي تحس به الحامل، أو رعايتها لابنها، وبالتالي الحفاظ على القبيلة. ولا عجب أن النساء اخترن الأنشطة الاقتصادية الأسهل التي تنسجم مع حالتهن هذه. وتوضح الكاتبة هنا حول هذه الفروق البيولوجية "أنّ الفروق البيولوجية ليست فروقاً في قوة وجلد الرجال والنساء ولكنها فروق تناسلية فحسب" وتعود لتذكر القراء بأنّ هذا "التفسير البيولوجي" أي "اعتناء الأمهات بالأطفال" صاحب المراحل المبكرة من التطور البشري وأنه أضحى فيما بعد بفضل الهيمنة الذكورية "طبيعياً"، مما يعني حسب قولها أنّ "الهيمنة الذكورية ظاهرة تاريخية نشأت من موقف معطى محتم بيولوجياً وصارت مع مرور الوقت بنية أنشئت ثقافياً ودُعمت". وهذا الشكل من تقسيم العمل بما يتعلق خصوصاً برعاية الأبناء لم يكن في صورة واحدة داخل كل المجتمعات آنذاك وإنما كان خاضعاً للتحكم الاجتماعي، الذي أنتج صوراً عديدة من شكل التعامل مع هذا الموضوع، مما يعني عدم كونية الشكل الذي تحاول اقناعنا به الهيمنة الذكورية.

amalalsaeedi11312@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك