تجَّار بمعيَّة الأنبياء

عمَّار الغزالي

من الأحاديث النبوية المعروفة والمتداولة كثيرا بين الناس، قول النبي -عليه الصلاة والسلام- "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء". وفي الحقيقة الحديث يحيِّر الأذهان: ماذا فعل هذا التاجر ليرافق صفوة البشرية من الخلق أجمعين؟ بماذا ضحَّى ليصعد إلى أعلى السُّلم؟ لقد باع واشترى وربح وجنى المال الوفير!! كيف يكون بمعية الأنبياء الذي قدموا أنفسهم وأموالهم لإبلاغ الرسالات السماوية؟!

هذا الكرم الرَّباني العظيم للتجار، إنما جاء ليؤكد أن الرسالات السماوية هي رسائل أخلاق وقيم ومعاملة بالدرجة الأولى منذ الأزل إلى ختم الرسالات السماوية، والتي لخَّصها إمامها وأمين وحيها -عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- بقوله: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، بل تؤكد كتب التاريخ أن أكبر قطر إسلامي -إندونيسيا- دخل أهله الإسلام عن طريق مجموعة تجار من شبه الجزيرة العربية، وآثارهم معروفة إلى اليوم، وتعتبر مزارات سياحية مشهودة، وكثير من سكان سواحل شرق إفريقيا إنما أسلموا عن طريق أخلاق ومعاملة التجار العمانيين، لم يكن الإسلام يوما دين رهبانية أو عزوف أو انعزال، بل هو الدين الذي لامس احتياجات الإنسان حتى بأدق التفاصيل، ووازن بين متطلباته المعنوية والمادية ومصلحة الفرد والمجتمع على حد سواء؛ لهذا فعندما فهم الرعيل الأول الفهم الصحيح للشريعة الغراء لم يستطيعوا بناء مدينة أفلاطون الفاضلة فحسب بل أفضل منها بكثير، كانت خير أمة أخرجت للناس... ميزانها العدل وميدانها الإحسان، وفي الغرب أهتم مؤخرا كبار القادة والعلماء والمفكرين بهذا المفهوم ودورنشر قيم الأخلاق في بناء تنمية مستدامة قوية والحق يقال إنهم تقدموا كثيرا في تحويل الأخلاقيات من أدبيات نظرية إلى آليات تنفيذية عن طريق قوانين وتشريعات الحوكمة والشفافية والعدالة والحرية المسؤولة وحفظ الحقوق وعدالة توزيع الثروة وضمان الحد الأدنى للحياة الكريمة لضعفائهم وفقرائهم...وغيرها مما لا يتسع المجال لذكرها.

هذا وقد أثبتت الكثير من الدراسات العلمية الرصينة أن تطبيق المؤسسات والشركات للمعايير القيم والأخلاق المهنية يزيد من كفاءتها وربحيتها وقوتها واستدامتها على المدى.

سأسلِّط الضوء عبر سلسلة من المقالات على بعض جوانب شخصية التاجر الصدوق الأمين الذي سيقوي تجارته بأخلاقه وإيمانه بمبادئه بل وسيربح أكثر، وفي النهاية سيقطع -بتجارته وأعماله التجارية- تذكرة مرافقة أشرف وأعظم وأعلى وأسمى رفقة على الإطلاق.

(1)

إنَّ السماحة والسهولة والمرونة في المعاملات التجارية خلق سامي نبيل حضَّ عليه الهدي النبوي لما له من آثار ايجابية على الفرد والمجتمع، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: "رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى"، كلُّ فرد منا عنده الفرصة أن تشمله هذه الدعوة النبوية العظيمة الجالبة للبركة بإذن الله تعالى، فالبيع والشراء أوسع نشاط كلنا نمارسه بشكل يومي، حتى الكثير من الأنشطة الاقتصادية الأخرى نهايتها تجارة؛ فالزراعة والصناعة آخرها بيع وشراء، وعلاوة على كَوْن السماحة عبادة وتقرب إلى الله -عزَّ وجل- ففيها أيضا الكثير من الفوائد الأخرى؛ منها على سبيل المثال:

- الطمأنينة والسكينة وراحة البال أثناء إتمام عملية البيع والشراء والبعد عن الغضب والانفعال النفسي وشد الأعصاب، بعض الناس حياتهم كلها معارك في معارك، يشاحن ويصارع ويرهق نفسه والآخرين في أي عملية تفاوضية.

- بعضهم -شعوريًّا أو لا شعوريًّا- يستخدمون هذا الأسلوب حتى مع البسطاء مثل الحلاق وبائع الخضار والجرسون وهؤلاء البسطاء، غالبا ما تكون خدماتهم ذات أتعاب قليلة نسيبا، يفترض بنا أن نرحم ضعفهم وندخل السرور عليهم بإكرامهم أو على الأقل بالكلمة الطيبة، إنَّ عجبي لا ينتهي من الميسورين الذين يفاوضون هذه الفئة البسيطة مفاوضات شاقة تصل أحيانا للخلافات والجدل العقيم. من الملاحظ أن بعض التجار يمارسون هذا لا شعوريا بسبب تعميم النمط التجاري التفاوضي في جميع تعاملاتهم.

- هذه الطمأنينة تساعد على التأني والتريث للوصول للهدف المنشود ورضا الطرفين على مستوى الجودة والمواصفات والاشتراطات مع السعر المناسب، الانفعال والغضب يفقد الانسان سيطرته على نفسه وقد يتلفظ بألفاظ غير لائقه، وغالبا ما يتخذ قرارات يندم عليها، وقد يؤدي تراكم هذه المواقف إلى انهيار عصبي أو مشكلات صحية خطيرة.

- العلاقة الطيبة بين طرفي المعاملات التجارية مهمة جدا لكلاهما، حتى بعد إتمام الصفقة البائع يحتاج السمعة الطيبة لاستمرارية عمله والمشتري كذلك قد يحتاج أن يتواصل مع البائع إما لمعرفة خلفيات أكثر عن بضاعته أو للتصليح أو استخدام ضمان البضاعة، بعض السلع أو الخدمات تصل فاعلية ضمانها إلى عدة سنوات.

الجدير بالذكر أننا هنا لا ندعو للسذاجة أو البلاهة أو إضاعة الحقوق، بل إنَّ ديننا الحنيف قد أكد على مشروعية التفاوض والنباهة واستخدام الوسائل والإستراتيجيات التفاوضية السليمة والنظيفة والتي سنذكرها بشيء من التفصيل في المقالات القادمة بإذن الله تعالى، وأيضا الشريعة لا تحرم أو تمنع حق الفرد في المطالبة بحقوقه لكن بالتي هي أحسن كما أشار النبي بقوله "سمحا إذا اقتضى"، ما أجمل هذا المنهج وما أعظمة حتى في المطالبة بحقوقنا أو الاقتضاء علينا بالسماحة والتساهل والمرونة؛ لهذا كانت وما زالت شريعتنا هي أخلاق وقيم بامتياز. أما نبينا الكريم، فلم يكن ذا خلق فحسب، إنما كان كما وصفه الله -عز وجل- "وإنك لعلى خلق عظيم" في دلائل وإشارات واضحة إلى الكمال والاستعلاء والتمكن من الأخلاق.

أحبتي، وطنوا أنفسكم على السماحة، مارسوها وربوا أبناءكم عليها وذكروا من حولكم بها...سوف تغير حياتكم وسوف تدمنونها.

تعليق عبر الفيس بوك