شهيد الإخلاص.. شهيد الشورى

المعتصم البوسعيدي

في الأيام الأخيرة من عمره كان كما هو دائمًا مطلقًا رجليه للريح، مشتعلاً كقنديل الضوء في شارع سرمدي صامت، أحلامه وطن جميل، واقعه ابتسامة أمل تلامس "البدر"، ترسل نورها الأخاذ حبًّا وبهجةً وسرورا، وفي الخامس والعشرين من أكتوبر كان سجوده في خيط الفجر الأول إيذانًا لرحلته الأخيرة على صهوة الإخلاص، لوح مودعًا (والخطاب) موجهًا للرفاق: حي على الفلاح، حي على العمل؛ فعُرس عمان اليوم، وليكن يومكم مطرزًا بالزهو والافتخار، يوم "سعود"، "منَّ" الله فيه على الناس شورى أمرهم؛ ليؤدي كل فرد أمانته على صناديق الانتخاب، و"المجد" كل المجد للوطن والسلطان.

حمد البوسعيدي -رحمه الله- ليس رفيق درب فقط أرثيه اليوم بكلمات لطالما كانت تسكن بين الضلوع، وإنما هو الإنسان الذي أرثي فيه الإخلاص والتفاني وتلك الابتسامة التي ينشرها بتلقائية إنسانيته العذبة، رحل فجأة دون مقدمات، رحل في عنفوان شبابه وهو على رأس عمله شغوفًا بالأرض الطيبة التي نبت فيها، مجاهدًا في تأدية واجبه على الوجه الأمثل، رحل ولم يرى أن صوته الأول لمرشح ولايته أثمر قطافًا لم يتذوق حلاوتها، رحل تاركًا فراغا كبيرا سنملأه بالصلوات والدعاء، رحل فتدفقت الحروف على شواطئه الهادئة، وكتب من كتب عنه حتى ذاك الوافد الذي رشف من معين روحه الجميلة كتب في رسالة "واتساب": "تعازينا القلبية.. أصلِّي من أجل روحه وهو يرقد في سلام، الآن هو في عالم مثمر".

حمد.. كان يحمل في قلبه الوطن الكبير (عُمان) والمجتمع الصغير (قريته) الأخضر بنيابة سمد الشأن بناسها ونخيلها الباسقة وقلعتها و"بيت العود" وفريقها الأهلي، من أجل هذا كان مخلصًا، والزميل العزيز الأستاذ أحمد السلماني كتب قبل أسابيع خلت عن رحلته "لتايوان" لماذا تقدموا؟ لم يتفلسف في الإجابة إذ قال: "الإخلاص" وقدم حقائق التقدم المنشود، نعم.. الإخلاص وحمد في رأيي شهيد إخلاصه، رسم لوحة ناصعة البياض لوَّنها باخضرار عمله، لازمته بحقيبة "قضاة الملاعب" نسافر معًا -ثالثنا أخي العزيز (فهد)- ليس هواية أو مجرد لعبة؛ بل طيورًا تحلق بمعاني التعاون والسعي لترجمة معنى بناء السمعة الطيبة، تلك الحقيبة التي "اختفت" في ظروف غامضة كان يتضاحك عليها كلما استذكرنا تلكم الأيام، حمد.. نشر طلته البهية على كل من عرفه، لم يدخر جهدًا في نيل شرف القلوب، فقد كان نعم الأخ والصاحب، سندًا راسخًا لأسرته وكل رفيق، بارًا بوالديه وإن كان هو الأب لأمه الأرملة الثكلى التي ما فتأت تردد لحظة وفاته: "مات اليوم أبي".

على المستوى الرياضي، يُسجَّل للفقيد الغالي شخصيته الوقادة على مستوى الفريق الأهلي وما حققه هذا الفريق في مختلف المجالات الرياضية والثقافية والاجتماعية، ورصيده المجتمعي حافل بالسعي الشكور، كما أنه ساهم بشكل ملموس في صياغة اللائحة المنظمة للعلاقة بين نادي المضيبي والفرق الأهلية التابعة له؛ إذ كان أحد أعضاء اللجنة التي صاغت بنود هذه اللائحة، لقد كان -رحمه الله- مستضيفًا للطموح، جامعًا للشتات، وململمًا لبعثرة الأوراق، ولطالما توسط الملعب مرشدًا ومحفزًا لأخلاقيات الرياضة قبل مهاراتها وفنياتها، هز الشباك بنبض وجوده كما هز القلوب بفراقه، سجل حمد مليء بالعطاء والنزاهة ومسيرته العملية شاهدة على عصامية شخصيته التي أوصلته لما هو عليه، ولم يزده ذلك إلا تواضع ورفعة شأن.

المسافة الصغيرة من المسجد إلى البيت، كانت سطور نرويها بعد كل صلاة نلتقي فيها، فيتمدد الوقت بأحلامنا، برؤانا، وبحقيقة وجودنا وما نريده من الحياة، حمد لم يمت.. والناسجون ذكراه يفترشون سجادة مرحه المدهش، والعابرون أيامه يتزوَّدن من راحلة روحه المتألقة، حمد لم يمت.. وقطرة ندى تتساقط كل صباح من زهور حكاياته المؤنسة، وسدول ناعمة من قصص سيرته تتراخى؛ لتعطينا الإحساس بقيمة رحيله، سبحانه ما أعدله فكل قضائه حكمة، وقد فتشت -وما زلت- أفتش عن حكمته في رحيل حمد، ليس استغرابًا -حاشا لله- ولكن لأزداد يقينًا ولتطمئن نفسي، ووجدت في موته على الإخلاص عزاء، وموته في "الشورى" القيمة الإسلامية العظيمة عزاء، لذلك حمد لم يمت.. وسيبقى وطنا نشتاق الرجوع إليه.

تعليق عبر الفيس بوك