أرى المستقبل

عهود الأشخريَّة

يانيس ريتسوس يقول: "إنني أتذكر المستقبل". فماذا لو قمنا منذ هذه اللحظة بتخيُّل كل تفاصيل الأيام المقبلة، ثم بدأ كل شيء تخيلناه يتشكل كأحداث حقيقية بطريقة مشابهة تماما لخيالاتنا السابقة مع أبسط وأصغر تفاصيلها؛ فالشاعر الجميل وحيد خيون يقول في إحدى قصائده: "لأن العمر مختصر، ماذا ستجني أيها المسكين من أشياء مختصرة"، كدعوة منه لاستغلال أي فرصة في محاولة الحياة عن طريق الانغماس في الأشياء التي تجلب لنا الضوء الحقيقي في كهوف أرواحنا، الأشياء المليئة بالتفاصيل الدقيقة.

(IF ONLY).. هو الفيلم الذي ناقش هذه القضية الغريبة فيما يتعلق برؤية المستقبل في شريط لحظي، أعني بذلك حين كنا نتعقد أن بعض الأشياء التي نشاهدها مجرد خيالات وتنتهي لكننا ننهبر حين نلاحظ أن هناك تشابها بين أحداث هذه الخيالات وأحداث حياتنا. في هذا الفيلم رأى "إيان" حبيبته "سماثيا" التي تدرس في معهد الموسيقى وهي تموت إثر حادث تتعرض له في ساعة معينة وهي عائدة إلى المكان الذي تسكن فيه/حين كان يرى "إيان" كلَّ هذا يشعر بالألم لأنه يشهد موت حبيبته أمام عينيه، لكنه في النهاية يعود إلى حالة الوعي ليعلم أنَّ كلَّ هذا ليس سوى مجرد خيالات وقع فيها فيطمئن قليلا حتى تبدأ أحداث ما شاهده تكرر نفسها بذات السيناريو دون أية تغيير، المشاهد الأخرى غير مشهد موتها؛ لذا يصاب "إيان" بالذعر، وهنا يفكر في محاولة تغيير القدر الذي أودى بحياة حبيبته التي ماتت عن طريق حادث سيارة؛ لذا يُحاول أن يغيِّر كل هذه المشاهد التي تحصل في ذلك اليوم حتى لا تكون النهاية كما شاهدها في ذلك الشريط المعقد والذي بالطبع لم يكن مجرد حلم. من خلال هذا الفيلم، هناك قضية أساسية لا بد من أخذها بعين الاعتبار وهي أنْ لا شيء يحدث عبثا؛ أي أنَّ لكل شيء قيمة -سواء كانت مادية أو معنوية- كل ما نشعر به ونشاهده في اللاوعي أو في يقظاتنا البعيدة له معنى؛ لذا إذا أخذنا ذلك باهتمام وفكرنا به جيدا يمكننا أن نكتشف طريقا مناسبا لحياتنا.

وفي جهة مقابلة لكل ذلك، يقول الشاعر أحمد الفارسي: "أيتها الدفاتر المغلقة، لا تستيقظي فنحن نيام ومحترقون فوق جمرة باردة"، كفكرة ليست معاكسة بطبيعتها لكنها مختلفة عن فكرة الاهتمام بكل التفاصيل؛ لأنه لابدّ من إهمال دفاترنا القديمة كما يقول أحمد، وهو بذلك ينظر إلى مستوى رؤيوي بعيد؛ حيث إنَّ الدفتر هو الحياة السابقة باعتبارنا مجموعة من الحيوات داخل حياة واحدة.

ومن هذا المقطع، أتذكَّر فيلم "قبل أن أخلد إلى النوم"، والذي تحدثت عنه سابقا بشكل مفصل للأحداث، وهو عموما مأخوذ من رواية "لواتسون" بطلتها كريستين التي فقدت ذاكرتها في حادث تعرضت له أصابها بحالة غريبة جدا، لكن كريستين التي فقدت الكثير من دفاترها القديمة كانت تحاول أن تسترجعها حتى وإن كانت تالفة مما يدفعها إلى فعل أشياء كثيرة حتى تعود لتلك الحياة الأولى التي كانت تعيشها في بيت دافئ مع زوج محب وإبن يحبها. حين تكتشف كريستين حالة فقد الذاكرة التي أصابتها وأنها أكبر مما تظن بكثير حتى أن آثار السن واضحة على ملامحها؛ تفكر أن ليس لديها الكثير من الوقت لتعيش حياة جديدة بل عليها أن تعود لحياتها السابقة فتبدأ بكتابة مذكراتها وتسجيلها بكاميرا خصصتها لذلك حتى تحقق أخيرا ما أرادته رغم كمية المعاناة والصدمات التي تعرضت لها، لأنها في الأساس كانت ترى المستقبل من خلال ذاكرتها المتعبة، فتشاهد فيها ألوانا وفراشات مضيئة.

... إنَّ هذه القصص التي تحدث بالقرب منا، حتى وإن كانت أحداثها مختلفة تدعونا إلى محاولة جادة ومُعتبرة؛ فالعالم كما يراه يانيس ريتسوس أغنية عميقة مغلقة، لابد لكل كائن هنا أن يعي ما تقوله له هذه الأغنية لأن الرسالة التي تبعثها له لا يجب بالضرورة أن تكون مشابهة للرسالة التي تبعثها لكائن آخر.

Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك