عن الترجمة

ناصر مُحمَّد

إنَّ إيجادَ معيار يعطي حكما على الذوق إن كان جيدا أو سيئا من المواضيع صعبة المنال، خاصة في ظل التوجه نحو "تنسيب" الذوق وعدم حكره على مذهب معين، فكل فرد له فلسفته ورؤيته وذوقه في الحياة، وما يكون جيدا عند شخص قد يراه الآخر مجرد رأي لا يهمه، فالأدب والفن والجمال مثلا ليست مواضيعَ تحكمها قوانين طبيعية ثابته تستطيع القياس عليها، بل أكثر تعقيدا إذ يرتبط فوق كل شيء بالإنسان نفسه وتجربته وإحساسه أمام العمل المقدم أمامه، فالأغلب مثلا قد لا ينبهرون أمام لوحة تشكيلية تتداخل فيها الأشكال المجردة دون اهتمام بالواقع؛ فهناك المتشبث بالواقع وهناك المتجاوز له دون إجبار للمتخلف على اللحاق بركب المتقدم لأن وعيه وفكره وتجربته خارج هذا المسير.

لم يكن هذا الجدل حول تحديد معيار للجمال شيئا حديثا، بل كان هذا الجدل في قمته في القرن الثامن عشر عندما تم التشكيك بالعقل وقدرته على الحكم من قبل التجريبيين مثل "هيوم" و"لوك"، هذا التشكيك الذي أتاح للجميع المجال في رؤية خاصة للحياة وللأشياء، ولكن العقلانيين لم يرقهم انحدار التقييم إلى مستوى العوام الذين، حسب رأي العقلانيين، تتساوى لديهم أصوات الغربان والبلابل ! لهذا انتفض الألماني "عمانويل كانط" لوضع حد لذلك من خلال وضع للجمال معيارا كونيا يتجه نحو المثال والسمو، وكل شيء خلافه مجرد لذة عابرة ليست خالدة.

وبغض النظر عن كون تنسيب الذوق سيسبب بطالة مستقبلية لسوق النقد والنقاد، إلا أن الحكم على الشيء كونه جيدا أو رديئا قد يكون ضروريا للشعوب التي لم تعرف المذاهب الفلسفية والفنية في تاريخها الطويل. فالغرب مثلا على الرغم من تجاوزاته للعديد من التيارات والمذاهب الفنية، إلا أنه لم يصل إلى هذا الذوق الكوني المرهف إلا من خلال هذه المسيرة التي حاكمت العقل والفن بطريقة واعية جادة، فالتشيكي "ميلان كونديرا" يشير مثلا في كتابه "الستارة" إلى أن ما يميز الأدب الأوروبي هو تأريخه؛ فمجرد إن ابتدأت الرواية الأوروبية بالتداخل بين الواقع والحلم من خلال رائعة سيرفانتس "دونكيخوته"، صارت الرواية ولأول مرة تحت رحمة ذوق ممنهج يتأرجح بين تيارين متباعدين: الواقع والرومانسي. وهذا التأريخ للفن جعل أوروبا بشكل عام خالقة لنفسها من خلال عدسة هذا التأريخ، فـ "كونديرا" يصف الأوروبيين بشكل عام بأنهم: أبناء الرواية!

لن أتطرق في هذا المقال إلى "تأريخ" الفن والأدب في عالمنا العربي؛ وذلك لغياب هذه المسيرة المذهبية فيه، ولكن سأتطرق إلى موضوع لا يقل أهمية عنه ألا وهو الترجمة. فالترجمة ترتبط أيضا بالتاريخ في تحديد جودتها خاصة حين تترجم نصا يعود إلى قرون عديدة تختلف دلالاته عن العصر الحديث، و الواقع العربي يحتم عليه الوضع أن ينهل من العالم الحديث ما فاته تاريخيا بداعي هيمنة الحداثة وذلك أن الحداثة تسللت إلى عالمنا مثل حصان طروادة بعد أن توقفت مسيرة العقل منذ قرون في العالم العربي الإسلامي، وأهمية الترجمة تكمن في نقل المعارف والعلوم نقلا أمينا يجعل من المتلقّي العربي مدركا للفروقات التاريخية بين واقعه وواقع الحداثة الغربية، وتتضح هذه الأمانة في وضع النص المترجم في سياقه الحقيقي والتاريخي وذلك من خلال رصد معاني الكلمة المراد ترجمتها في زمنها، ولا يكون ذلك إلا من خلال معجم تاريخي يوضح الاختلافات الدلالية زمانيا ومعرفيا، فمثلا تجد كلمة "علماني" في قاموس أكسفورد معرّفةً بأصولها اللاتينية بأنها رجل الدين الذي يمارس الأعمال الدنيوية خارج نطاق الكنيسة، في حين تطوّرت بعد ذلك بعد نحتها في منتصف القرن التاسع عشر إلى معنى فصل الدين عن الدولة . وهذا ما يغيب عن المعاجم العربية إذ لا يوجد لديها هذا التحقيب التاريخي للدلالات وإنما تعامل معاملة جامدة غير تاريخية!

وبما أنَّ الفضاء المعرفي في عالمنا هو فضاء "لاهوتي" فهو بالضرورة غير تاريخي، فمازال العقل اللاهوتي حاضرا في الترجمات العربية أذكر فيها على سبيل المثال لا الحصر ترجمة الصاوي لرواية "الزنبقة الحمراء" لأناتول فرانس التي تحوي عددا من الجمل القرآنية محمّلا النص الروائي ما لا يحتمله! وكذلك تدخل المترجم من خلال "الهوامش" مثل ترجمات المصري "عبدالمنعم الحفني" لبعض مؤلفات فرويد بجمل إقصائية لأنها تتعارض مع وجهة نظر الدين! وهناك أيضا إشكالية في ضبط بعض المصطلحات المعرفية وترجمتها خطأ مثل كلمة "العلة" وخلطها بالسببية كما وضّحه المترجم السوري "طرابيشي" في نقده لمشروع العقل العربي للجابري! وقيام طرابيشي أيضا لتوضيح اللبس في ترجمة بعض المصطلحات الفلسفية ووضعها في سياقها التاريخي مثل كلمة "العقل" واختلاف معانيها تاريخيا دون أخذها حرفيا بمعنى واحد.

... إنَّ ما يصعب عمل الترجمة هو صعوبة إيجاد علم خاص به، خاصة في ظل معاجم غير قادرة على ضبط المعاني ضبطا صحيحا، وأغلب المناقشات في قضايا الترجمة تكون في رداءة أو جودة الترجمة دون القدرة على إيجاد معيار للحكم، وقد يكون سبب ذلك حساسية طرح إشكالية لا تاريخية المعاجم والأدوات المتواضعة المتاحة للمترجم، إذ إن طرح هذه الإشكالية يستدعي بالطبع استحضار الفضاء المعرفي اللاهوتي المهيمن على العقل العربي والذي لم يمر، كما ذكرت سابقا، بصيرورة تاريخية متعاقبة محايثة للحداثة الغربية، وهذا الاستدعاء يعني بالضرورة الصدام العنيف مع العقلية الدينية.

إنَّ ما يشوِّه الترجمة بشكل عام هو الارتباط بأيديولوجيا معينة؛ فهي تخرج النص عن معناه الحقيقي وتعيد إنتاجه برؤية قريبة من توجّه المترجم، وتكبر المعضلة إذا كان النص المترجَم هو أيضا ترجمة للنص الأصلي بلغة مختلفة، فهنا يكون المترجم الثاني أسيرا لتوجه المترجم الأول، لتمتد سلسلة من تشوّه النص إلى المتلقي الذي يرى للنص من درجة ثالثة أكثر جهلا. ومن إسقاطات الترجمة الأيديولوجية على النصوص ما ذكره كونديرا في كتابه "الوصايا المغدورة" حين تم تشويه نصوص كافكا الادبية وذلك بعدم احترام أسلوب تكراره الحرفي للكلمات واستبدالها بأساليب وصفية لم يقصدها الكاتب بشكل عام.

تعليق عبر الفيس بوك