ملامح الثقافة الباطنة في سلطنتنا الحبيبة

علي بن مسعود المعشني

العقل الباطن ويسمى أيضاً العقل اللاواعي، واللاشعور، هو مفهوم يشير إلى مجموعة من العناصر التي تتألف منها الشخصية، بعضها قد يعيه الفرد كجزء من تكوينه، والبعض الآخر يبقى بمنأى كلي عن الوعي. وهناك اختلاف بين المدارس الفكرية بشأن تحديد هذا المفهوم على وجه الدقة والقطعية، إلا أنّ العقل الباطن على الإجمال هو كناية عن مخزن للاختبارات المترسبة بفعل القمع النفسي، فهي لا تصل إلى الذاكرة. ويحتوي العقل الباطن على المحركات والمحفزات الداخلية للسلوك، كما أنّه مقر الطاقة الغريزية الجنسية والنفسية بالإضافة إلى الخبرات المكبوتة.

ويُعرف العقل الجمعي (أو ما يُعرف بالأثر الاجتماعي المعلوماتي أيضاً) بظاهرة نفسية تفترض فيها الجماهير أن تصرفات الجماعة في حالة معينة تعكس سلوكاً صحيحاً. ويتجلى تأثير العقل الجمعي في الحالات التي تسبب غموضاً اجتماعياً، وتفقد الجماهير قدرتها على تحديد السلوك المناسب، وبدافع افتراض أن الآخرين يعرفون أكثر منهم عن تلك الحالة.

سطوة أثر الجماعة على الفرد تظهر في قابلية الأفراد إلى الانصياع إلى قرارات معينة بغض النظر عن صوابها من خطئها في ظاهرة تسمى بسلوك القطيع. على الرغم من أنّ ظاهرة العقل الجمعي قد تعكس دافعاً منطقياً بالنسبة للبعض، إلا أنّ التحليل يظهر أن سلوك القطيع قد يدفع الجماعة إلى الانحياز سريعاً إلى أحد الآراء، ولذلك قد تنحصر آراء الجماعات الكبيرة في دائرة ضيقة من المعلومات.

لابد لي من هذا الاستهلال العلمي كي أصل إلى العنوان والذي بعثه بداخلي نتائج انتخابات مجلس الشورى مؤخرًا ، وحُمى وتفاصيل الربيع والتي بعثت على السطح بسلوكيات وأفكار لا يمكن تصنيفها علميًا لغرابتها على العقل السوي، ولكنها تشي بالكثير من ملامح الثقافة الباطنة لمجتمعاتنا العربية.

ومايهمنا هنا هو تشريح جزئي لحالة وحجم الثقافة الباطنة في سلطنتنا الحبيبة وملامحها عبر استنطاق بعض الظواهر والحالات وتشخيصها وتفكيكها ثم إعادة تركيبها وفق المنطق والعقل والدلالة العلمية ما أمكننا ذلك.

حملت نتائج انتخابات مجلس الشورى مؤخرًا دلالتين جليتين على مدى حضور الثقافة الباطنة وانتصارها على الثقافة الظاهرة، وتمثلتا في الحضور القوي للقبيلة والثقافة الذكورية للمجتمع العُماني.

كل ذلك رغم نغمات ومعزوفة كلنا عُمان ولننتخب عُمان والنساء شقائق الرجال والاقتراع هو الحل والفيصل... إلخ .

فهذه النتائج تحمل دلالات عميقة عن مدى حضور الثقافة الباطنة في وجدان بعض العُمانيين، ومؤشرات جلية عن مدى الاستعداد النفسي لمظاهر أخرى متوقعة في المستقبل بمجرد تهيئة المناخ لها.

إن هذه الظواهر مثل القبلية في حقيقتها ليست عيبًا، بل أطوار ومكونات طبيعية لأي مجتمع، ولكن العيب والخطر أن يتم تجاهلها والرهان على التشريعات والزمن وحدهما لطمسها وتجاوزها وهو أمر أشبه بتمني مائدة من السماء في زمن ولت فيه المعجزات.

فبفضل الله يهتدي العقلاء لهكذا مؤشرات ومنذرات لتلافي وتجاوز العثرات، ولتحصين المجتمعات من ثغرات يتسلل من خلالها الخصوم والأعداء والفتن.

فالقبيلة في سلطنتنا الحبيبة حاضرة في الوجدان وعلى السطح وبقوة، ويجب التعامل معها دون محاولة تجاوزها عنوة وقسرًا حتى تنشأ دولة متصالحة مع الموروث وتنمو به ومعه وصولًا إلى إحلال مظاهر الدولة وترسيخ ثقافتها بسلاسة ويسر، وهذه معضلة عربية كبرى ولا تقتصر على السلطنة وحدها.

بقيت القبيلة "المغبونة" في الثقافة الباطنة للمجتمع العربي تتحين الفرصة للإعلان عن نفسها بين حين وآخر، وفي أقطارعربية أخرى أسقطت القبيلة الدولة كما هو الحال في ليبيا أو حلت محلها في ظل الخواء والمناخ المناسب لها كما هو الحال في اليمن. والحالتان الليبية واليمنية حري بنا دراستهما بتجرد وعمق لنقف على سلبية انقضاض القبيلة على الدولة كمثال ليبيا وخطورة نتائج ذلك على الدولة والمجتمع، وإيجابية قيام القبيلة بملء فراغ الدولة والحفاظ عليها في الحالة اليمنية.

وتوغلت الطائفية في نفوس العراقيين رغم كل مظاهر وثقافة التآخي بين مكوناتهم لقرون طويلة، دون إنكارنا لدور الآخر في جزء هام من التأجيج والحشد الطائفي.

نحن في أمس الحاجة اليوم قبل الغد، إلى غرس حقيقي لقيم الثقافة الظاهرة ونقلها من شعارات ومظاهر احتفالية خاوية إلى تجذيرها في خلجات النفس والثقافة الباطنة وإحلالها، عبر خطاب تربوي وإعلامي وديني مستنير وصادق وعميق، وبحاجة ماسة إلى التصالح مع القبيلة ومشاركتها صراحة في الشأن العام والتشريع كثقافة ومكون ثقافي وفكري أصيل في مجتمعنا كي نقود وعي المجتمع بلاخدش أو تجريح أو استفزار أو التجاوز والإنكار الكاذب إلى التسليم طوعًا وقناعة بأهمية إرساء ثقافة الدولة لاحقًا ووجوب ذلك، واعتبار ذلك ركنًا راسخًا من أركان المواطنة والوطنية معًا.

وبهذا نعيد صياغة العقل الجمعي للمجتمع ونعيد تركيب وصياعة مفرداته وقناعاته وننزع من اللاشعور مخزوناً لايستهان به من مشاعر تنتج مظاهر وسلوكيات ناسفة لكل مظاهر تماسك المجتمع وصلابته ومن خلاله الدولة بكل مظاهرها ومنجزاتها ومكتسبات المنتمين لها في ساعة الصفر. وننزع كذلك إرث التقية بكل أنواعها وبمختلف أشكالها بتطمين النفوس الوجلة ودرء خطر القوى المتربصة عبر تمكين مظلة الدولة وتعميق الهوية الكبرى الجامعة وإحلال المواطنة بالوطنية دون إقصاء أو تجاهل أو تردد.

إنّ الهروب إلى الأمام والتمسك بالقشريات والشعارات الجوفاء، لن يسهم في عُمان بالصورة المأمولة ولن يؤمنها من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وعلينا أن نحصنها من أن تكون عرضة لتجاسرنا عليها بالهويات الفرعية والأهواء المتناسلة من النفس، وعناصر وأدوات الثقافة الباطنة من قبلية ومناطقية وغيرها .

فالثقافة الباطنة هي مخزون العقل الباطن، والعقل الباطن هو الصدق والحقيقة في الإنسان كون الإنسان لا يستطيع التحكم به أو التأثير عليه، ولا تُجدي معه التقية ولا التورية على الإطلاق كالعقل الظاهر، من هنا فلابد لنا من تطهير غرفنا السوداء لتطهر عُمان منّا وبنا قدر المستطاع، ولنراهن على الأجيال القادمة أكثر في هكذا مهمة كوننا جيل الثقافة الباطنة بامتياز .

قبل اللقاء: فلنتشبه بُعمان قدر استطاعتنا وبقدرحبنا لها وعشمنا بها، وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك