الوطن العربي إلى أين؟

فهمي الكتوت

إذا كانت الثروة النفطية سببًا في تفوق اقتصادات كل من السعودية والإمارات على الاقتصاد المصري، إلا أن دولا مثل إندونيسيا وتايلند وكوريا الجنوبية وماليزيا، لم يكن النفط سببا في تفوقها. في حين كانت مصر في طليعة هذه الدول عام 1965، بعد إنجاز خطتها الخمسية الأولى، وأن القيادة السياسية التي تولت الحكم بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، -الذي يصادف ذكرى مرور 45 عاماً على وفاته- هي وراء تقهقر مصر سياسيا وانحدارها اقتصاديا.

لخص لي مواطن مصري أثناء زيارتي الأخيرة، ما جرى في مصر بكلمات بسيطة.. "كان التعليم في مصر لأبناء البشوات والأفندية.. أصبح مجانيا وحق للجميع في عهد عبد الناصر.. أنا من عائلة فقيرة من أسوان، لولا التعليم المجاني لما حصلت على الشهادة الجامعية.. عملت محاسباً في إحدى مصانع حلوان وأصبحت واحدًا من مديري فروع الشركة، وعندما خصخص مبارك الصناعات المصرية فصلت من العمل، وراتبي التقاعدي البالغ 1200 جنيه لا يغطي الحد الأدنى من نفقات أسرتي، في ظل ارتفاع معدلات التضخم .. أعمل سائقا لأكمل المشوار مع أبنائي الذين ما زالوا على مقاعد الدراسة.. السادات باع مصر لأمريكا.. وحسني سلم الاقتصاد للصوص".

ليس مجانية التعليم فحسب، بل الرعاية الصحية، وتوفير العمل للجميع، فالبطالة كانت في أدني مستوياتها 3%. وطبقت الثورة الإصلاح الزراعي، وزعت بموجبه نحو مليون فدان على الفلاحين الفقراء، ووضع نظام ضريبي تصاعدي لتحقيق العدالة الاجتماعية. رافق هذه الإنجازات الاجتماعية، نجاحات اقتصادية، تأميم قناة السويس، وتأميم الممتلكات الأجنبية، وتحقيق برنامج اقتصادي شامل في مجال الصناعات الكيماوية والدوائية والهندسية والكهربائية والتعدينية. وكان من أهم إنجازات مصر إقامة أعظم مشروع في القرن العشرين في مجال البنية التحتية، بناء السد العالي الذي غير وجه مصر. كما قادت مصر الوطن العربي نحو التحرر الوطني الاجتماعي.

ومع دخول مصر نفق "سياسات الانفتاح" في عهد السادات، وما تبعها من توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" مع العدو الصهيوني، في عام 1978 بدأت مرحلة الانحدار، الذي نشهد نتائجه اليوم في الوطن العربي عامة، مصر قاطرة الوطن العربي، قادة الأمة نحو التحرر الوطني والاجتماعي، وفي مرحلة الانكسار، عكست واقعها المؤلم على الوطن العربي.

جاء انفجار الغضب الشعبي المصري في 18و19 يناير عام 1977 احتجاجاً على السياسات الاقتصادية المدمرة، فقد اجتاحت مصر هبة شعبية عارمة - وصفها السادات بانتفاضة الحرامية-. حين خضعت الحكومة المصرية لإملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين برفع الدعم عن السلع الأساسية مثل الدقيق والسكر والأرز والشاي الذي كان يسمح للمواطنين البقاء على قيد الحياة، فقد ارتفعت الأسعار، خلال آخر خمس سنوات بنسبة 120% بينما بقت الأجور على حالها كما يقول أحد قادة حزب التجمع الكاتب والصحفي حسين عبد الرازق في كتابه "مصر في 18و19 يناير" وقد جاءت هذه الإجراءات للموافقة على جدولة ديون مصر الخارجية التي بلغت 55 مليار فرنك في حينه. وما ثورة 25 يناير 2011 إلا نتيجة استفحال هذا النهج، وتفاقم الأزمة التي دفع ثمنها الشعب المصري.

ما جرى في مصر تكرر في الأردن عام 1989، هبة شعبية عريضة شملت معظم المدن والقرى الأردنية احتجاجا على السياسات ذاتها، التي أدت الى ارتفاع المحروقات وعدد من السلع والخدمات الأساسية، لنفس الأسباب وبناء على إملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين، للموافقة على إعادة هيكلة المديونية التي قفزت خلال أربع سنوات إلى 8 مليارات دولار، وإمعانا بالنهج ذاته وصلت المديونية حالياً حوالي 32 مليار دولار. نفس الوصفة التي قدمت لمصر، قدمت للأردن، لأن المرض واحد والمسببات واحدة، سياسات الانفتاح، تحرير التجارة الداخلية والخارجية بشكل مطلق، وتحرير أسواق المال، وإلغاء الدعم، وخصخصة مؤسسات الدولة، وتسليمها للاحتكارات الرأسمالية. ووقعت الأردن في 1991 اتفاقية وادي عربة مع العدو الصهيوني.

انفجار الغضب الشعبي صباح الثامن عشر من ابريل عام 89 لم يكن حدثا معزولا عن مقدماته الموضوعية، وهو نتيجة سياسات القهر والمعاناة التي عاشها الشعب طوال عقود من السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وحرمانه من اختيار ممثليه الحقيقيين تحت قبة البرلمان، ونهج التبعية السياسية والاقتصادية، والسياسات الطبقية المنحازة التي عمقت الهوة بين الفقراء والأغنياء بتوفير الامتيازات للبرجوازية الطفيلية، والإجراءات التقشفية القاسية وتفشي مظاهر الفساد السياسي والمالي والإداري، والبذخ والترف في الانفاق غير المبرر، وإفراغ خزينة الدولة من احتياطاتها من العملات الأجنبية.

أثمان وطنية وأخرى اقتصادية واجتماعية تدفعها الأمة العربية، لتوسيع السوق الرأسمالي، في مواجهة الأزمات الاقتصادية التي تعيشها المراكز الرأسمالية. وحماية للكيان الصهيوني، وحروب إبادة نظمتها الدوائر الاستعمارية ومولتها الرجعية العربية، بهدف تغيير الخريطة السياسية للمنطقة. وقد عبر عن ذلك صراحة مديرا المخابرات في فرنسا وأمريكا، بتصريحات خطيرة؛ حول مستقبل منطقة الشرق الأوسط، وما ينتظرها من أحداث على خلفية الصراعات المشتعلة في سوريا والعراق واليمن وليبيا. إن "الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة"، مؤكدين أن دولا مثل العراق وسوريا لن تستعيد أبدا حدودها السابقة. وأن "الشرق الأوسط المقبل سيكون مختلفا عن الشرق الأوسط ما بعد الحرب العالمية الثانية". وقد جاءت هذه التصريحات على خلفية انعقاد مؤتمر للاستخبارات نظمته جامعة جورج واشنطن في 27 أكتوبر.

تعليق عبر الفيس بوك