في تأويل شنكرا لنص الأوبانيشاد

قيس الجهضمي

ظهر علم التأويل في القرن الثامن عشر والتاسع عشر على يد الفلاسفة الألمان مثل "شلا يرماخر" و "دلتاي"، واستخدم كونفيوشيوس التأويل في المفاهيم الصينية المقدسة عن طريق تفريغ النص من المفهوم القديم وملئه بالجديد لكي يأخذ دوره الحيوي بالمجتمع، لذا تتناول الكاتبة هالة أبو الفتوح في مقالتها "تأويل النصوص القديمة قراءة لتأويل شنكرا لنص الأوبانيشاد" أهم الأفكار والمفاهيم التي وضعها شنكرا خلال تأويله لثاني النصوص المقدسة "الأوبانيشاد" وأكثرها تفلسفًا في العصر القيدي (2500 ق م - 600 ق م)، وهي محاولة فيما سماه شلايرماخر امتلاك فهم متجدد للنص من أجل فهم الخطاب الإلهي وفهم الصلة بين المطلق والعالم والإنسان.

أهم مفاهيم كتاب الأوبانيشاد:

مثل الأوبانيشاد نضج الفكر الهندي بانتقاله من الشرك والتعدد إلى الأحادية والتوحيد، ويتمحور مضمون الأوبانشياد حول مبدأ الحقيقة الواحدة والثابتة التي لا تتأثر بالتغيرات التي تحدث بالعالم، وهي بذاتها الجوهر العميق للإنسان، فمفهوم الكارما في الأوبانشياد يشير إلى تحديد مصير الإنسان عن طريق قانون العمل الذي يتحمل فيه مسؤولية أعماله مما يضمن تنفيذ الثواب والعقاب، وأما مفهوم التناسخ فأشار إلى عودة الإنسان من جديد إلى الثواب والعقاب عبر دورات حياتية متتالية، وتكمن خطورة مفهومي الكارما والتناسخ في التواجد اللانهائي للمعاناة التي ستُصاحب روح الإنسان في العالم المادي، وهي حرمانها من الرغبة العليا "إدراك المطلق"، لذا أوجد مفهوم الخلاص من ظهور مفهومي الكارما والتناسخ الذي انحصر في البداية في الهروب من العالم المادي من أجل إدراك المُطلق والتوحد معه، فكان سلوكًا فرديًا أنانيًا، ثم بعد هيمنة مفهوم "التناسخ" تطور مفهوم الخلاص إلى التحرر من العود المتكرر إلى هذا العالم والعودة للمطلق.

يمثل البرهمان -كما تذكر أبوالفتوح- التجلي الموضوعي لتعيين الحقيقة المطلقة والجوهر اللامتناهي، كما يتبنى أوبانيشاد بريهاد في تحديد ماهية البرهمانأسلوب السلب من خلال عبارة "لا هذا ولا ذاك"، منها صار الإله في النص المقدس معروفًا ومجهولاً فهو معروف من قدرتنا على استدلال بعض القضايا عنه لأنّه حقيقة بديهية، ومجهول لأنّ الأشياء المتناهية التي نستمد منها معرفتنا به لا توصلنا إلى معرفة فعاليته اللامتناهية، ومن النصوص ما سعى إلى إثبات وجود البرهمان المطلق داخل الذات الإنسانية على أنّه حال، فظهر مفهوم "الأتمان" الذي يعني الذات أو الروح إشارة إلى الجوهر اللامتعين في الإنسان، أما قضية حلول المطلق في الإنسان فأثارت الكثير من التساؤلات والتفسيرات ونشبت صراعات فكرية بين المدارس الفلسفية آنذاك ومن بينها محاولة شنكرا في القرن الثامن قبل الميلاد والتي تعتبر قراءة على قراءة أستاذه باداريانا وتأويلاً لها.

تأويل شنكرا:

انطلق شنكرا في تحليل علاقة المطلق بالعالم من خلال تأكيده على أن المطلق هو الذات الكونية الشاملة ومصدر كل الكائنات وغايتها وأنه كينونة تغاير عالم الأشياء، ولأن هناك من الأسفار ما تماثل بين المطلق والعالم استبدل شنكرا مبدأ المماثلة بمبدأ العلة حيث أكد أن البرهمان هو العلة الفاعلة والمادية للعالم، ومنها نقد السامكهيا التي قالت بنشوء العالم من علل مادية خلقت نفسها بنفسها، وفي علاقة المطلق مع العالم تذكر أبوالفتوح أن شنكرا يرى أن البرهمان حق والعالم مجرد مظهر خارجي أو وهم لكن الأدفيديا أو الجهل هو الذي يدفعنا لنتوهم أن العالم هو البرهمان ذاته، فاستحدث مفهوم الوهم للتدليل على نسبية العالم واختلافه عن المطلق، وتعرف المايا عبر النص المقدس أنها الجهل الناشئ عن النقص المعرفي وهي تتأرجح بين كونها جهلا فرديا "أفيديا" أو جهلا كونيا "مايا" الذي هوعلة ما ندعوه بالعالم المادي مع التسليم بوجوده منذ الأزل، لكن شنكرا أعاد تأويل المفهوم ليعني به عيبا عقليا في التفكير بسبب تناهي العقل البشري فيذهب إلى تفسير المقدس لكثير من الموضوعات مما يؤدي إلى إخفاء الطبيعة الجوهرية، فالمايا لدى شنكرا تفيد أن العالم موجود لأن إدراكنا الحي يؤكد وجوده ولكنه ليس هو الوجود الحق.

احتوى الأوبانيشاد على ما يسمى بالبرهمان الأسمى وهو الجوهر اللامتناهي والبرهمان الأدنى والذي يعني عالم الظواهر، وتجاوز شنكرا هذا النص واستخدم المفهومين للدلالة على نفس الإله مما أوقعه في مأزق الثنائية الذي يتعارض مع نسقه التأويلي "الأدفيتا" اللاثنائية، وفي تأويله لنصوص الإله المشروط والإله المجرد استند على قضية اللطف الإلهي حيث قرأ النصوص التي وجد فيها الإله المتعين بوصفها وسيلة استخدمها الإله للتعبير عن ذاته أمام الوعي الإنساني وتدعيماً لعمليات التأمل والعبادة.

إنّالإنسان في حقيقته لدى شنكرا-كما تذكر أبوالفتوح- مركب من جوهرين مادي وروحي، وهو بهذا يشارك في المرتبة العليا والمرتبة الدنيا،فإذا كان البرهمان الأدنى هو البرهمان الأسمى أثناء ارتباطه بالمايا، إذاً فالروح الفردية هي البرهمان الأسمى المرتبطة بالأفيديا، وذكر شنكرا أن النصوص التي يبدو ظاهرها وكأنها تفرق بين البرهمان والروح فهي تفرق على أساس الحالة الراهنةلا على الجوهر بمعنى أن جوهرهما واحد لكن يبدوان مختلفين بسبب العناصر المضللة.

إنّ الارتفاع بالمتناهي هو مجرد عودة الجزء اللامتناهي الكامن فيه إلى الإلوهية في كمالها المطلق، وهو الخلاص كما ظهر في الأوبانشياد، إذ إنّالخلاص هو اكتشاف لحقيقة أزلية كامنة بداخلنا، وذهب شنكرا إلى أنّ الخلاص هو خلاص المجموع وأكد على أهمية العمل ومساعدة الآخرين، ثم قسم الخلاص إلى نوعين: الخلاص المؤقت "جيفا موكتا" السُّمو في حال الارتباط بالإطار المادي والمتمثل في الجسد، والخلاص الأبدي "فيدها موكتا" وهو السُّمو المرتبط بالانفصال الفعلي عن الجسد والعالم عن طريق الموت، وهكذا أصبح الخلاص حالة من الوعي الكامل يتم من خلالها الاستمتاع بصحبة المطلق.

منهجية التأويل:

تجاوز شنكرا تنظير وتحديد آليات منهجه في التأويل إلى التطبيق والممارسة فأعطى نظرة شمولية لأهم الأفكار والمفاهيم في النص المقدس، ومن قواعد تأويله التي ظهرت من خلال تعامله مع نصوص الأوبانيشاد "الالتزام بحرفية النصوص"، فكان يتأرجح بين الأخذ بنظريات وأقوال الكتاب المقدس الحرفية وبين الابتعاد عن مقولة "قال الكتاب المقدس"، فعلى سبيل المثال أعلن شنكرا أن العالم يبدو أنّه حق فقط على النطاق المادي أما على مستوى الحقيقة الجوهرية فهو مجرد وهم محض، في حين أعلن الأوبانشياد انفصال البرهمان عن العالم على النطاق المادي إلا أنه أكد التماثل في مستوى الجوهر المطلق، وهذا التأرجح في التعامل مع النصوص خلق العديد من التناقضات جعلت تحديد المعنى المقصود صعبا جدا، وأما في جدله مع الخصوم فكان يلجأ إلى الاستشهاد بأقوال الكتاب المقدس ولو كانت الأقوال تعارض أفكاره التي طرحها من قبل وكل هذا لأجل تدعيم رده على خصومه، وأدى هذا الفعل إلى وجود العديد من التفسيرات المتباينة خلال تأويله.

تعليق عبر الفيس بوك