قراءة في كتاب "أقانيم اللامعقول" ج2

صالح البلوشي

ضمن مشروعه الفكري المتمثل في قراءته النقدية لـ"أقانيم اللامعقول في التراث الإسلامي"؛ صدر للكاتب والباحث العماني أحمد بن مبارك النوفلي الجزء الثاني من كتاب "أقانيم اللامعقول.. تحليل ونقد روايات الوحي والملائكة" الذي تفضل مشكورا بإهدائي نسخة منه بتوقيعه. والكتاب من إصدارات دار الانتشار العربي ببيروت ويقع في 530 صفحة من القطع الصغير. قبل الولوج في الموضوع ومناقشة الكاتب في بعض القضايا التي تناولها في الكتاب أود أن أقف قليلا مع عنوان الكتاب، يُعرّف اللغوي الشهير ابن منظور الأقنوم بقوله "الأقانيم الأصول واحدها أقنوم قال الجوهري وأحسبها رومية"، الاصطلاح هنا إذن لا علاقة له بالأقانيم الثلاثة المعروفة في الديانة المسيحية وهي الأب والابن والروح القدس، والأقانيم الثلاثة التي يشير إلها الكاتب هي التقليد والأسطورة والخرافة كما عنون بذلك الجزء الأول من كتابه، ويرى الكاتب أن جذور هذه الأقانيم هما اثنان: هجر القرآن واستقالة العقل، وأسهب الكاتب كثيرا في الجزء الأول من الكتاب في شرح معنى هجر القرآن وعدم احتكام المسلمين إليه -برأيه- في القضايا الخلافية وغيرها، ووصفه بأنه نص قطعي حركي يتعامل مع الحقائق الغيبية والكونية بعيدا عن الأوهام والظنون والخيالات التي هي حسب تعبير الكاتب "مساحة واسعة تسرح فيها النفوس والأهواء".

أما في الجزء الثاني من الكتاب الذي صدر قبل عدة أشهر، فقد تناول فيه الكاتب نقد الروايات التراثية عن ظاهرة الوحي في الإسلام.. وقال: إنَّ "الدراسات التي تعرضت لمسألة الوحي يمكن أن تنقسم إلى ثلاثة أقسام حسب مناهجها وهي: فهم الوحي بالمناهج المادية الحديثة، وفهم الوحي بالمناهج التسليمية التقليدية، وفهم الوحي بدلالات الوحي نفسه"، ثم قام بشرح الأقسام الثلاثة المذكورة. ثم أشار الكاتب إلى الروايات الأسطورية والإسرائيليات التي تسربت إلى كتب التاريخ والتفسير عند المسلمين؛ مما أدى إلى إدخال مفاهيم غريبة -لا علاقة لها بالعقل وروح الإسلام- في هذا الدين ومن ضمنها فهم الوحي؛ مما دفع الكاتب إلى الانطلاق بعد ذلك إلى الحديث عن الوحي بين الخطاب القرآني والخطاب الروائي. وذكر أنَّ القرآن الكريم قدم للفظة الوحي: "في سياقات متعددة، فبناء على هذه السياقات ينبغي تقسيم الوحي من حيث حضوره إلى قسمين: وحي نحو الغيبي مثل وحي الله إلى الملائكة، والثاني: وحي نحو الطبيعي وذلك كحضور الوحي إلى النحل، وهذا الوحي الثاني ينقسم بدوره أيضا إلى: وحي خارج السياق النبوي مثل قوله تعالى: "وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون" (النحل: 68). ووحي داخل السياق النبوي مثل وحي الله للأنبياء والرسل والملائكة، وهذا الوحي يتضمن معان مختلفة مثل البعث، والكتابة التي تنسجم مع دلالات الوحي، والإلقاء كما جاء في قوله تعالى "إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا" (المزمل 5)، ولذلك يتساءل الباحث: كيف نستطيع أن نفهم هذه المعاني في سياق الوحي؟ ويجيب بقوله: بأنه "بما أن الوحي يحمل تلك المعاني التي ذكرها الكاتب هو في حقيقته طبيعة إنزال كلام الخالق إلى المخلوق، ولا يكون ذلك إلا لمن اصطفاهم الله من الأنبياء والرسل فحينها يكون هو كلام الله الذي اختص به أنبياءه ورسله ليبلغوه إلى الناس، أما القرآن الكريم وبقية الصحف والكتب المنزلة على بقية الأنبياء فهي ليست الوحي وإنما هي نتيجة الوحي لأن الله أخبر بذلك بقوله: "وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا" (الشورى: 7)، وإطلاق الوحي على الكتب السماوية من باب إطلاق اسم المفعول منه عليها، أي الموحى، فيقال القرآن وحي الله ويسمى كلام الله".

ثم تطرق الباحث إلى الخطاب القرآني لكيفية نزول الوحي وذكر بعض القراءات الحديثة في هذا الموضوع للدكتور محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وهشام جعيط وعبدالكريم سروش والباحث العماني خميس العدوي، وفي فصل "بدء الوحي في الروايات والأخبار" تطرق الكاتب إلى نقد الروايات التراثية التي زخرت بها كتب التاريخ والتفسير عند المسلمين في هذا الموضوع منها: الرواية الشهيرة التي كادت أن تصبح من المسلمات اليقينية عند المسلمين وهي التي تتعلق ببدء الوحي في غار حراء والتي شكك فيها بعض المفكرين والعلماء المسلمين أذكر منهم: محمد حسين فضل الله في بعض كتب، ومنصف الجزار في كتابه (المخيال العربي في الأحاديث المنسوبة إلى الرسول)، ويرى النوفلي أن هناك علامات استفهام كثيرة تُطرح حول هذه الرواية من عدة نواح مختلفة منها: وجود فرق كبير بين رواية البخاري ورواية ابن إسحاق التي ذكرها في سيرته، وهذا الفرق الكبير بين الروايتين يجعل الباحث يميل إلى التشكيك فيهما. وفي القسم الثالث من الكتاب بحث الكاتب في نقد الروايات التراثية والإسرائيليات التي جاءت في الملائكة وجبريل عليه السلام لمعارضتها النص القرآني واتكاءها على الظنون والأوهام، وهذه الروايات المزيفة ربطت -كما يقول الكاتب- الإنسان "بميثولوجيات مختلفة ومعقدة، وأبعدته عن المقصد الرئيس للكتاب العزيز". ويختم الباحث كتابه بأن هذه الفصول النقدية لا يعني "إبطال السنة النبوية ورفضها، بل ضبط الروايات المنسوبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ومراجعتها بتحليلها ونقدها وفق المرجعية القرآنية".

... أعتقد أنَّ الكتاب يحتاج إلى دراسة أوسع؛ فقد احتوى بين ثناياه على بحوث نقدية رائعة، ولكن للأسف فإن مساحة المقال لا تكفي للحديث عنها بشكل أوسع، ولكني أستطيع أن أقول بأن الكاتب استطاع أن يبحر في رحلته في بحر التراث الإسلامي بنجاح مستعينا بآلات التجديد النقدية الحديثة؛ لذلك فإن الكتاب يستحق القراءة بعيدا عن الظنون والأحكام المسبقة.

تعليق عبر الفيس بوك