يحكى أن..

عائشة البلوشية

يحكى أنّ زوجة البيدار (الأجير الذي يروي ضواحي النخيل ويُساعد في عمليات نبات النخل وتحديرها وخرافها وجدادها) كانت تساعد زوجة الهنقري (الرجل الموسر)، في أعمال الخبز والطبخ، وكانت امرأة متطلعة لما عند غيرها، ولا تقتنع بما رزقها الله، وكان قلبها يغلي كالبركان كلما دخلت بيت الهنقري، وتتمنى أن تحظى بذلك المنزل الفسيح، المكون من السبلة والدوهريز والمطبخ والحوش وغرف النوم الثلاث التي تتوزع فيها كل روزنة بسجارجها الصيني ذوات النقوش البديعة، ومات زوجها البيدار، ورأفة بحالها أخذت زوجة الهنقري في إعطائها المال مقابل أيّ عمل تقوم به، ومرت الأيام وبدأت تريكة البيدار في الكيد لزوجة الهنقري لدى زوجها، وبدأت تطلق الأكاذيب أمام الجارات، وﻷنّ زوجة الهنقري لم تنجب له الأولاد والبنات، فقد كانت هذه هي الثغرة التي دخلت منها زوجة البيدار، وشيئًا فشيئًا نجحت في الاستحواذ على قلب الهنقري وتزوجها مطلقًا زوجته الأولى، وبطبيعة الحال أصبحت هي سيدة المنزل الذي حلمت به، ولكنها كانت ترى وجه الزوجة الأولى في كل ركن، فتلجأ لزوجها بحجة أنّها تريد هدم ذلك العمود لتوسعة المكان، وإزالة ذلك الجدار لتدخل الغرف على بعضها، وجاء اليوم الذي سافر فيه زوجها في تجارة لبيع محصول التمر، فأتت بعمال لإزالة ركن يتوسط المنزل، فنصحوها بخطورة ذلك، ولكن عقدة النقص كانت قد أعمت بصيرتها، وما هي إلا لحظات لخروج آخر العمال حتى انهار سقف المنزل الذي أصبح بلا عمد على رأسها...

استفتح مقال اليوم بهذه القصة التراثية، كمدخل لموضوع مُهم بدأت ألمسه لدى بعض البشر، الذين ما أن يصل أحدهم إلى كرسي الإدارة -مهما كان بسيطًا- إلا ويبدأ في التخلص من جميع الكوادر نقلاً وفصلاً وتهميشاً بحجة انتمائهم لمن سبقوه، ورغبة منه في تصحيح الأخطاء الفادحة التي كان يمشي بها العمل الركيك، دون الالتفات إلى لب الحكمة أنّها لو دامت لمن سبقه لما كانت ستصل إليه، فيبدأ يكيل التهم ويراكم كل خطأ على ظهر من سبقه، دون أن يلتفت إلى استغلال العقول التي حوله بالشكل الأمثل، متجاهلاً النظر للأمور بعين النحل، التي لا ترى سوى الرحيق في محيط بصرها، حتى وإن شحت الأزهار في بيئتها، إن الإداري الناجح يستغل كل الإمكانات المتاحة أمامه الاستغلال الأمثل، ويتذكر أنّه ومن معه يعملون ﻷجل وطن يستحق العطاء والإعمار، وطن أعطانا الحب والأرض، وصان الكرامة والعرض، فعليه أن يعمل بهذا المبدأ أولاً وأخيرًا دون شخصنة الأفعال، وإلا لانهار كل الهيكل على رأسه، وخرج تاركاً سمعة هشة سيئة، وقلوباً لا تذكر له خيراً قط، وعليه أن يلجأ إلى الفطنة التي تؤلف القلوب معه وحوله، لتستنير العقول بحب العطاء والعمل، وإلا فلينتظر قلة الإنتاجية، وقلة جودتها، ولتضعضع البنيان حتى يصبح هباءً تذروه الرياح...
وتحضرني هنا -ونحن في شهر أكتوبر- قصة رئيس الوزراء السوفيتي الذي سقط نظامه وتمت تنحيته من قبل حزبه الشيوعي في الرابع عشر من أكتوبر 1964م، وبدأ يسلم الحكم لمن سيخلفه حينها، فأعطى خليفته ثلاث وريقات صغيرة مرقمة بالأعداد من واحد إلى ثلاثة، وقال له: عندما تواجهك أول مشكلة مع الشعب عليك بمخاطبة الشعب بعد أن تفتح الورقة الأولى وتقرأ ما فيها، وإذا تكرر الأمر فافتح الورقة الثانية، وإذا تأزمت الأمور واستفحل العصيان فعليك بالورقة الثالثة، فسأله: وماذا في هذه الأوراق؟ ردّ عليه: إياك أن تفتحها إلا في حينها وإلا فقدت فاعليتها ولن تفهم ما بها، ومرت الأشهر وبدأ الشعب في الشكوى والمطالبة في الرد على تساؤلاتهم، فتذكر الوريقات التي أعطاها إياه رئيس الوزراء الأسبق، وأحس بأنّ اللحظة قد حانت لفتح الورقة الأولى، وركض للخزانة الحديدية وفتح الورقة الأولى ووجده قد كتب فيها: ارم اللوم على من سبقك!، فقام بإلقاء خطاب لشعبه بأنّه قد استلم تركة صعبة، وملقياً بتردي الأمور على من سبقه، فكان الأمر وكأنّه السحر، حيث هدأت الأوضاع وعاد النّاس إلى أعمالهم؛ وبعد مدة ليست بالقصيرة حدث ما حدث وخرج الشعب إلى الشوارع، فجرى سريعاً وأخرج الورقة الثانية، فتحها ووجد نفس العبارة المكتوبة في الورقة الأولى، فخرج على الشعب في خطبة ذكر فيها محاولاته الكبيرة في الإصلاح ولكن اللوم يعود لأخطاء من سبقه، وعندما تكرر الأمر في المرة الثالثة وثار الشعب، لجأ إلى الورقة الأخيرة فوجده قد خط له: سلم الوريقات الثلاث لمن يأتي بعدك!!
توقيع: "إنّ الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً (أن يتقنه)".


تعليق عبر الفيس بوك