تايوان..لماذا تقدموا

أحمد السلماني

قد يتفاجأ القارئ الكريم والذي لطالما شرفني بمتابعة مقالاتي والتي تصب في الرياضة لا سواها بأن استميحه عذراً في أن أرتدي اليوم عباءة المقالات العامة والتي أراني مجبرًا لا بطلا في التعاطي مع قناعات أفرزتها رحلتي الحالية إلى تايوان بدعوة خاصة تشرفت بها لزيارة هذه الجزيرة القابعة في بحر الصين الجنوبي والتي احتفلت أمس السبت بعيدها الرابع بعد المئة في كرنفال ومهرجان حافل حضره فخامة الرئيس ما ينج جو والذي تشرفت أيضًا بلقائه ومصافحته حيث تقف جمهورية الصين (تايوان) شامخة مُعلنة عن حضور دولي وإقليمي بارز كأحد النمور الآسيوية التي برزت في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحالي وذلك بفضل التقدم الاقتصادي والتكنولوجي.

ولقد أثارت هذه الجزيرة إعجابي وبقية زملائي الصحفيين من مختلف دول العالم في تعاطيها مع الواقع الدولي وفرضها لوجودها كواحدة من الدول المُتقدمة في شتى مناحي الحياة حيث بنت سياساتها التطويرية وفق إستراتيجيات أساسها التعليم والابتكار والعمل خارج الصندوق دون إغفال الإرث الحضاري والتاريخي الكبير لجمهورية الصين(تايوان).

ولكي لا أتّهم بالمبالغة ولكنني كما كثيرين يدركون تمامًا أن هذه الجزيرة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 35000 كم2 تقف اليوم شامخة بجوار العملاق الصيني الكبير الذي أوجدت معه علاقة على تعقيدها سأبسطها للقارئ الكريم كون التنين الصيني على خلاف أزلي مع الجزيرة في أحقية ضمها في حين ترى هي أنّها مستقلة ولكن الطرفين أبديا قناعة أفرزت اتفاقية الوضع الحالي والتي أبرمت بين الطرفين العام 1992 تقضي بأن يمثل البلدان مؤسسة واحدة في المحافل الدولية حيث لا يرغب كلا الطرفين في تغيير الوضع الحالي لتشابك وتداخل المصالح الاقتصادية بين الطرفين إذا ما علمنا أنّ قطاعا كبيرا من الشركات التايوانية تعمل في الصين فضلاً عن مليوني تايواني يعملون بها أيضاً ويعتمد اقتصاد تايوان على السوق الصيني بشكل كبير بالرغم من وجود منافذ أخرى في المقابل تدرك الصين الشعبية أن الاستثمارات التايوانية في الصين تعد واحدة من ركائز الاقتصاد الصيني وبالتالي "فلا مساس" بالوضع الحالي بعد تأقلم كلا الطرفين معه.

وعودة إلى عنوان المقال فإنني ورغم قصر الزيارة ومحدوديتها إلا أنّه قد تولدت لدي كما لدى كثيرين سبقوني أن السر وراء التقدم المدهش لتايوان إنما هو سبب وعامل رئيسي ينطلق من مبادئ أفرزها عمق الحضارة الصينية وما أكثرها ألا وهو "الإخلاص"، نعم الإخلاص في كل شيء فكل ما يقدمه لك التايواني نابع من إخلاص وحب لذلك الشيء وإذا أحس بخلاف ذلك فإنّه يتجنب أن يقدمه وهي ثقافة ومبدأ أساسي في تعامل التايواني مع أسرته ومجتمعه وعمله ودولته ومع الآخرين.

ومن مظاهر الإخلاص ومن تجربة استوقفتني كثيرا وكانت من خلال تطوافنا بـ"متحف القصر" وبالتعامل مع المرشدة السياحية المكلفة بالشرح للمجموعة وقد بلغ بها العمر مبلغاً وعلى سعته وكبر حجمه ولأربعة أدوار كاملة وكثرة مقتنياته فقد أصرت أن نستخدم السلالم للتنقل بين طوابق المبنى وقد كانت تلهث من الإعياء لدواعي السن وشخصيا طالبتها بأن تستريح ولكنها أصرت واستمرت وبابتسامة عريضة لم تفارقها ولمدة ساعتين كاملتين لم تتوقف عن الشرح وعند سؤالي لها عن سر ذلك قالت: "أنا أحب وظيفتي ومتعلقة بها وأنا على هذا الحال في هذا المتحف منذ 8 سنوات وهذا صنيعي في كل يوم ولعدة مرات" وحتى تلك التي اصطحبت المجموعة الأخرى كانت في نفس السن تقريبًا ولك أن تقيس أيها القارئ الكريم ذلك على تعاملاتنا مع كل من صادفناه في الفندق والسوق والمؤسسات الحكومية والشركات والمتاحف والحدائق وكل مكان زرناه على مختلف الأعمار وكل ذلك نابع من"حب العمل" أياً كان نوعه ومردوده فسر السعادة لدى هؤلاء كان "الحب والقناعه" فكل من قابلناهم كانت الابتسامة عنواناًلهم.

عامل آخر وهذا لم استشفه بشكل مباشر ولكنني سألت صديقي جورديان التايواني وفور خروجنا من لقاء جمعنا والقائمين على "المعهد التايواني لبحوث الأسواق" والأرقام المذهلة والمسجلة باسم الاقتصاد التايواني عن السر فكانت الإجابة"العلم والتعلم" حيث وبالرغم من اعتماد تايوان على النظام الأمريكي كإطار عام للتعليم إلا أن التخصص المبكر وما بعد الصف التاسع وحسب الموهبة والقدرات وليس الدرجات فضلاً عن غريزة حب التعليم وغرس ذلك في الناشئة كل ذلك أفرز وعلى مدى السنوات وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية ونقل "شيانج جاي شيك" حكومته إلى الجزيرة، أجيالا وحكومات كانت ولا زالت تضع قطاع التعليم والمعلم في أولى مراتب دورة الحياة بتايوان،وبالتالي إيجاد بيئة مناخية مثالية مكن الحكومات وساعدها في تنفيذ الخطط والإستراتيجيات التي ساهمت في وضع تايوان ضمن أكثر اقتصاديات العالم نموا واستقرارا بالرغم من كل الهزات والأزمات الاقتصادية التي مرت على العالم،وللحق فلو أنّ التعليم في منطقتنا العربية والشرق الأوسط سار وفق منهجية صحيحة يدركها التربويون دون سواهم لما كنا نعيش اليوم ويلات الحروب وما تخلفه من تراجع كبير في التنمية وشيوع الفقر والبطالة والتخلف عن ركب الآخرين ويحسب لتونس الشقيقة نجاح تجربتها إلى حد ما بعد "كذبة الخريف العربي" إلا أنّ غالبية الشعب التونسي من الفئة المتعلمة والتي نالت قسطاً وافرًا من العلم والمعرفة وهما قرينان لا ينفصلان.

وحقيقة وفي ذات السياق فإنّ تايوان تقف اليوم على بنية تحتية مذهلة وشبكة طرق ووسائل مواصلات وتسير دورة الحياة بها على نمط معيشي جاد وسريع قد يبتلع معه بعض القيم الإنسانية ولكن يضمن العيش الكريم للمواطنين كما وأنّ هناك ملاحظة شدت انتباهي في هذا البلد وهي النظافة العامة حيث وطوال 6 أيام لرحلتي بها لم أصادف عامل النظافة بالشارع سوى مرة واحدة ومع ذلك فكل ما حولك نظيف ومنظم ومن وجهة نظري فإن ذلك راجع إلى المستوى العالي من الثقافة والوعي لدى جمهور الشعب التايواني في ضرورة المحافظة على النظام والذوق العام و"نظافة البيئة إنما هو دليل على نظافة ساكنيها".

وقبل أن أختم أترك للقارئ العربي أن يقارن ما أسلفته في هذا المقال بالوضع في منطقتنا العربية مع بعض الاستثناءات كما أنه من الضروري بمكان إيفاد ذوي الاختصاصات وأصحاب القرار ودفعهم لزيارة هذه البلدان للوقوف على تجاربها الناجحة واستلهام ما يناسب البيئة العربية وتطبيقه دون إغفال ثلاثة أشياء، الصبر والإخلاص والعلم، وقبل كل ذلك فإن "حب الأوطان من الإيمان".

تعليق عبر الفيس بوك