ما وراء رسائل الموت

عهود الأشخرية

فينوس خوري الكاتبة اللبنانية والتي تكتب باللغة الفرنسية تقول في إحدى قصائدها "تقول حين يحدث أن تموت، إن الظلام لا يخيف إلا الليل/ إذ يحبس الفزعون من بين الأموات أنفاسهم السوداء".. ما أصعب الكتابة عن الموت أو ترك رسائل للأحياء حين تشعر أنك سترحل أخيرًا وتنتهي هذه المسؤولية الوجودية من على عاتقك، وما أصعب أن تترك خلفك ما يدل عليك، أو حين تقرر الرحيل خفيفًا من على هذه الأرض، ماذا تترك للذين سيبحثون عن شيء يدلهم عليك أثناء غيابك البعيد والطويل عنهم أو ربما -الأبدي-؟ إن كتابة رسالة عن الموت لهو أمر يشبه تصاعد الريح على ورقة يابسة ووحيدة، يالقسوة أن تحملك بعيدا عن الشجرة التي هي أمك ولا رفيق لك إلا الوحدة، أو يشبه فانوسا في بلاد مهجورة يضيء أرواح من مرُّوا ذات يوم ولم يعد لهم أي أثر!

في الرسالة التي كتبتها فيرجينيا وولف إلى زوجها قبل انتحارها، وكانت قد ظهرت هذه الحياة المختلفة المزدحمة في فيلم (الساعات) وهو الفيلم الذي يتحدث عن حكايتها مع تفاصيل كثيرة من خلال أحداث نفسية تخص عوالمها الداخلية، عموما كانت فيرجينيا وولف في تلك الرسالة تأكد على زوجها أنها تفعل ما تراه مناسبا لهما في الوقت الذي كانت تشعر فيه أنها ستصاب بالجنون بشكل مستمر، وكانت لها مبررات كثيرة في أنها لا تستطيع تدمير حياته أكثر ولا إفساد سعادته. هذه المبررات التي ما كانت ستتركها لو لم يكن ثمة شيء فيها يدفعها للتمسك بالحياة ولو حتى ضوء صغير؛ فلولا ذلك لرحلت دون أدنى تفكير في الآخر الذي لم تعد لترتبط به بأي شكل من الأشكال بعد رحيلها، لكننا حين نقترب من هذا الموت نشعر بصعوبة الموقف حيت تقف في نقطة تفصل بين مرحلتين مختلفتين، إذن فالكثير يختبئ خلف الكلمات التي تركتها فيرجينيا وولف قبل رحيلها من ذلك المشهد الذي قررت أن تعتبره الأخير.

أما الرسام الهولندي فان جوخ فكانت رسالته إلى الحياة قبل موته مليئة بمصطلحات الكآبة والملل لكنه رغم ذلك كان يقدس فيها الرسم وكل ما يربطه به من ريشة وألوان وأوراق حين يقول: "إنني أتعفن مللا لولا ريشتي وألواني هذه، أعيد بها خلق الأشياء من جديد" ويتضح أنه يفقد الجدوى من الحياة ومن وجوده على الأرض حين يقول: "ماذا أصنع؟ أريد أن أبتكر خطوطا وألوانا جديدة، غير تلك التي يتعثر بصرنا بها كل يوم" وفي عبارة أخرى تدل على سأمه من البقاء الذي لا يضيف له أي شيء يقول فان جوخ: "اليوم رسمت صورتي الشخصية ففي كل صباح عندما أنظر إلى االمرآة أقول لنفسي: أيها الوجه المكرر، يا وجه فانسان القبيح، لماذا لا تتجدد؟ لكن من جديد ودائما يُعوّل فان جوخ على فرشاته وألوانه في قوله: "في قلب المأساة ثمة خطوط من البهجة أريد لألواني أن تظهرها، في حقول الغربان وفي سنابل القمح بأعناقها الملونة، إذن فهو من خلال هذه الرسالة يضع ملخصا لما كان يعيشه في هذه الحياة، أي أنه رغم نظرته التشاؤمية فقد كان يؤمن بالفن وهو الأمر الذي جعله متمسكا بالحياة لفترات طويلة.

أما الكاتب النمساوي ستيفان تسفايغ والذي أقدم على الانتحار هو وزوجته الشابة على الانتحار معاً في منزل ريفي في البرازيل وكتب في رسالته الأخيرة إلى العالم: "قبل مفارقتي الحياة بارادتي الحرة، وفي صحة من عقلي أنا مرغم على الوفاء بالتزام أخير"/ كان هذا الالتزام أن يشكر البرازيل البلد الذي قدم له كل سبل الراحة والكرم وكان يمكن لو كان أقل سنا لاستطاع بناء حياته من جديد في هذا البلد بعد أن انتهكت أوروبا كل طاقاته الروحية، يقول في ذلك: "الذي بلغ الستين من العمر يحتاج إلى طاقات غير عادية حتى يبدأ بداية جديدة كل الجدة، وما لدي من طاقات استنزفتها أعوام التشرد المديدة. وفي النهاية ينظر ستيفان تسفايغ نظرة مشرقة للموت وهو يودع أصدقائه وينهي رسالته بأمنية لهم "عسى أن تتسنى لهم رؤية الفجر بعد هذا الليل الطويل .. وها انذا أتقدمهم وقد فرغ صبري تماما!، ستيفان تسفايغ ودّع العالم بطريقة مختلفة وهو يهرب من آثام الحروب والتشرد في أماكن بعيدة، يهرب من كل هذا تاركا للعالم رسالة صغيرة تاركا فيها كل همومه .. هاربا لحرية مختلفة.

Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك