سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟(12)

صناعة السلام

د. صالح الفهدي

عمانُ صانعةُ السلامِ. وصناعةُ السلامِ أجلُّ وأعظمُ صناعةٍ على وجهِ الأرضِ في الوقتِ الرّاهن. وإنّ من أبرزَ ما سيخلّده التاريخ عن عهدِ جلالة السلطان قابوس-حفظه الله ورعاه- هو صناعته للسلام.

إن وراءَ صناعةِ السلامِ فلسفة عميقة تمتدُّ بجذورها إلى النفس الإنسانية في منابعها الصافية التي لم يكدّرها بعدُ أي مكدّر خارجي، يقول (مارفين غاي): "إذا لم تتمكن من إيجاد السلام داخل نفسك، لن تجده أبداً في أي مكان آخر" وهذا ما نجدهُ في الشخصية العمانية المسالمة كثقافةٍ ضاربةٍ في العمق إذ هي شخصية متصالحةٌ مع ذاتها، متسالمةٌ مع نفسها، الأمر الذي انعكسَ على نظرتها للعالم. وليس صحيحاً ما يبرّره من يحدث القلاقل والبلابل للآخرين بأنّهم قدّموا الذرائع، ومهدوا للأسباب، وإنّما الصحيحُ هو أنه لم يصنع السلام في نفسه، لهذا نظر إلى العالم بقتامةٍ وبؤس فخافَ على مصيرهِ من أن يُقضى عليه وهو في ذلك واهمٌ مخادع..!

إن الذي يستشعرُ السلامَ في نفسه، يعيشهُ في واقعه، وعندها يصبحُ مبادراً لأجلِ أن يعمّ السلام ليس في وطنهِ وحسب بل وفي سائر أصقاعِ الأرض، أمّا ذلك المضطربِ في نفسه، الغير متوافق ذاتياً في جوهره فهو الموقدُ للفتن، المشعلُ للحروب، المنشغلُ بالتفاهاتِ من الأمور..!

أمّا عمان فهي في الأصلِ ذاتٌ وطنيّةٌُ مسالمة مع التسليم بالقولِ بأنّه لا يوجدُ على ظهرِ الأرضِ مجتمعٌ متجانسٌ كليّةً لكنّ هناك سمةٌ غالبة تطبعُ الروح الجمعية للوطن وهذا ما حدث مع العمانيين الذين تآلفوا مع بعضهم على اختلافهم وهنا تقعُ الرؤية الفلسفية الثانية للسلام والتي يقول عنها الدالاي مايا :" السلام لا يعني غياب الصراعات، فالاختلاف سيستمر دائما في الوجود .. السلام يعني أن نحلَّ هذه الإختلافات بوسائل سلمية عن طريق الحوار، التعليم، المعرفة، والطرق الإنسانية".

كنتُ مشاركاً ذات مرّةٍ في حلقة نقاشٍ تلفزيونية مع مفكرين عرب، حينما قال أحد المشاركين: معلومٌ دون شك أن السياسة لا تقوم على أخلاق..! بعده أبديتُ وجهة نظري المختلفةِ إذ قلتُ: إن كانت هذه المقولة واقعيّة في عالمٍ لا يؤمنُ بالأخلاقيات فذلك صحيح، أمّا في عالمنا فهذا أمرٌ لا يستندُ على دليل، فالبرهانُ الأوضحُ لدينا هو الذي يثبتُ على أنّ السياسة التي تطبّقها عمان قائمةٌ على الأخلاق؛ أُنظر إلى اتفاقيات السلام التي وقّعتها عمان مع سائر جيرانها الذين كان بعضهم في يومٍ من الأيامِ أعداءً، أُنظر لمنطلقات السلامِ الذي تبنّته من أجلِ عيشٍ وفاقٍ دائم مع الآخرين أولاَ ينطلقُ ذلك من أخلاقيات العيش الإنساني المشترك المصير..؟! أُنظر إلى سياسةِ العفو والتسامح في الداخل والخارج من أجل استتباب السلام.. أولاَ يستندُ ذلك على قاعدةِ الأخلاقيات المثلى؟!.

صناعةُ السلامِ هي أرقى صناعة على وجهِ الأرضِ لأنّها لا تصدرُ إلا عن نفسٍ زكيّةٍ، تحترمُ نفسها، وتقدّر الإنسانية على اختلافاتها، وتسعى إلى تحقيق غاياتٍ عُليا لشعوب الأرض على قاعدة الإحترامِ المشترك وعدم التدخّل في شؤون الغير، وهذه هي العبارة التي نشأنا ونحن نتلقاها دائماً من رجل السلامِ جلالة السلطان -أطال الله في عمره-.

أما الفلسفة الثالثة للسلام فهي أن صناعة السلامِ لا يمكنُ أن تتم بإخضاعِ الآخر كُرهاً وإذلالهِ قسراً كي يتوائمَ ويتكيّف مع سياسةِ القوي الذي يدّعي صناعة السلام..! هذا أمرٌ لا يتحقق حتى بين الأبِ وأبنائه، أو بين المعلّم وطلاّبه..! لقد أثبتت التجارب العلمية والنفسية والإجتماعية أن سياسة الإكراه والإذلال لن تصنعَ أحراراً بل تخلق عبيداً حاقدين لن يلبثوا عند الفرصة المواتية حتى يثوروا ثورةَ انتقامٍ وثأر..! يقول ألبرت إينشتاين:" لا يمكن المحافظة على السلام باستخدام القوة .. يمكن تحقيق السلام فقط من خلال التفاهم مع الاخرين". لقد تمسّكتُ عمانُ بهذه الفلسفة منذ نشأة الدولة العمانية الحديثة وجعلتها شعاراً لا تغيّره الأهواءُ ولا العلاقات ولا المصالح إنّما شكّل بالنسبة لها مبدأً من مباديء وجودها كدولةٍ أصيلةٍ، ضاربةٍ في القدم.

فحين كان الآخرون يرون أن تحقيق السلامِ لا يكون بغير القوّة كانت عمان ولا تزال ترى غير ذلك، لأنّها تؤمنُ بأن تحقيق السلامِ بالتقتيلِ والتدميرِ والإذلال قد يوصل الآخر إلى الإستسلامِ ولكنه لن يوصله إلى السلام، وستظلُّ قضيّة الدّم والثأر تتوارثها الأجيال عقب الأجيال..! فالقوي كما يقول فولتير "ليس من يكسب الحرب دائما وإنما الضعيف من يخسر السلام دائما".

لقد نظرت عمانُ دائماً إلى الجانب الآخر من الإنسانية، الجانب النفسي والعاطفي والأخلاقي، الجانب الذي يمكنُ أن يخضع بالحبِّ والإحترامِ ويستثار بالقوةِ والإذلال..! نظرت لهذا الجانبِ فرأتهُ هو المنفذ الأمثل لصناعة السلامِ مع الآخر، فإذا بعدوِّ الأمس يصبحُ الصديق الحميم لا بالمالِ ولا بالسلطةِ وإنّما بتقدير الذات، واحترامِ الفكر، وخلق الحوار الإنساني على قاعدة "«إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» "(الأنبياء/92)، وعلى دعائمِ التاريخ والأرض المشتركَين لا على وقعِ رصاص، ودويِّ المدافع..!

أما الفلسفة الرابعة لصناعة السلام فهي أنّه الإيمانَ بالسلام لا ينطلقُ من موقفٍ ضعيفٍ، ولا نفس متخاذلةٍ، مستكينةٍ، تداري عن ضعفها بإيمانها بالسلام، وإنّما ينطلقُ من قوة الموقف، وسلامةِ المبدأ، وشكيمة النفس، يقول جلالة السلطان قابوس حفظه الله ورعاه :"إنّ السلام الذي نؤمن به ليس سلام الضعفاء الذين لايقدرون على ردِّ العدوان والمحافظة على كيان الدولة واستقلالها وسيادتها، وانما سلام الاقوياء الذين يعدون للامر عدته كما أمر الله"

وهذا ما يجعل صناعة السلام مرتبطة بالحرية، إذ لا يمكن أن نتصوّر شعباً مسالماً غير حر، لأن السلام إن لم يرتبط بالحريّة كان مسكَنةً وذلّة وذلك لا يمكنُ أن يسمّى سلاماً..!

لهذا فإن صناعة السلام ليست مجرّد أقاويلَ أو شعارات إنّما هي إرادةٌ فاعلة، وشكيمةٌ متوقّدة لا تغيّرها التقلبات ولا توهنها المتغيرات، فالدّول التي تزعمُ صناعتها للسلامِ عن طريق استخدام القوّة مع قدرتها على تحقيق السلامِ بغير بالقيم الإنسانية المثلى لن تجني سوى العواقبَ الوخيمة التي ستدفعها أجيالها المتلاحقة..! أمّا الدول التي أوقدت الضوء في الظلام، وحملت غصون الزيتون في وقت الهجير فإن أجيالها سينعمون بالعيش الهانيء الرغيد.

لقد أصبح العالم يموج بالفتنِ والصراعات التي لو نظرَ إليها العاقل من أعلى كوكب الأرض لرآها تافهة المعاني، حقيرة الأهداف، لأنه لا يمكنُ لغايات كريمة أن تتحقق بإشعالِ فتنةٍ، ولا بإفتعالِ سخيمة..! لهذا فإن العاقل الحكيم هو الذي يتبصّرُ في العواقب، وينظر في الآثارِ، ويتمعّن في النواتج فيتخذ السلامَ منهجاً ومذهباً، يقول جلالة السلطان قابوس المعظم:" إن السلام مذهب آمنا به، ومطلب نسعى إلى تحقيقه دون تفريط أو إفراط" ومعنى الإفراطُ والتفريط هو أن السلامَ فضيلةٌ بين رذيلتين: الضعف والبطش..!

هكذا سعت عمانُ دائماً إلى صناعة السلام، فبرعت فيها لأنها لم تتخذها رياءً وتملّقا، وإنما اتخذتها منهجاً ودستورا، فأقامت العلاقات على أسس الإحترام المشترك، وأنشأت التفاهمات على قاعدة عدم التدخل في شؤون الغير، وقرّبت الشعوب على أساسِ العيش الإنساني، فما كان تحريرها للأسرى والرهائن، وما كان الإحترام والتقدير من العالم بأسره لأدوارها السياسية الرزينة إلا وفقاً لنتاجِ هذه الصناعة العظيمة .. صناعة السلام..

تعليق عبر الفيس بوك