الاقتصاد العالمي يترقب حسم معركة النفط الصخري مع "ضبابية" المشهد وغياب الأدوات

السعودية تضحي بالمدخرات لوقف الزحف الأمريكي إلى قمة "الذهب الأسود"

تقرير- نجلاء عبد العال

مغامرة غير محسوبة العواقب تحولت إلى حرب مستترة أم ظاهرة اقتصادية طبيعية؟ مهما كانت الإجابة فإنّ واقع أسعار النفط في الوقت الحالي يدفع الدول المصدرة للنفط التقليدي إلى حبس أنفاسها خلال الأشهر القليلة المتبقية من 2015، ويتزامن ذلك مع بحث الحكومات عن كل سنت سواء في الخزائن أو صناديق الاحتياطي.. البعض يظن أن ثمة متحكمين في خيوط ما يقولون إنها "لعبة دولية"، للسيطرة على مسار الأسعار، هبوطاً وارتفاعًا، وأن هؤلاء ربما يملون من مغامرتهم في وقت لاحق، ليعود النفط مرة أخرى إلى أسعار مرضية لمنتجيه.

غير أن المشكلة في جوهرها تتجلى عندما يتضح ألا أحد يمسك بـ"خيوط اللعبة"، خاصة مع تداخل العوامل وتوسع ساحة التجاذبات لتشمل العالم من أقصاه إلى أقصاه.

ويبقى الحاضر الغائب في أزمة أسعار النفط هو النفط الصخري، لكنه كثيرًا ما يتوارى عن الأنظار عندما يبرز المحللون أسبابًا سياسية وأخرى اقتصادية؛ كعوامل تقف وراء تراجع الأسعار، ومن المؤكد أنه لا يمكن إغفال هذه العوامل؛ إذ إنّ العرض والطلب هما رمانة ميزان المسألة.

ويتصدر العوامل الاقتصادية الوضع الاقتصادي في قطبي الشرق والغرب؛ الصين والولايات المتحدة، إذ كان هناك تغيرات في توجهات وسياسات الصين لتبطئ سرعة النمو الاقتصادي، الذي رأت الصين أنه أكبر مما يمكن للعالم استيعابه على المدى الطويل، وكان الحل بالنسبة لبكين أن تهتم أكثر بالسوق الصيني المحلي، الذي يزيد عن المليار نسمة من المستهلكين، فبدأت تتخذ من السياسات الاقتصادية ما يسهم في زيادة القدرة الشرائية لأبنائها، وتعمل على إعادة هيكلة توجهاتها التصنيعية لترفع نسبة الاستهلاك المحلي تدريجيا، مقابل خفض تدريجي للاعتماد على التصدير.

وكذلك فإنّ الولايات المتحدة فقدت كثيرا من الرونق الاقتصادي الذي تمتعت به قبل الأزمة المالية العالمية، ومؤخرا بدأت بياناتها الاقتصادية تعطي مؤشرات أقل فأقل عن قوتها الاقتصادية، ولا يخفى ما لأوروبا من تأثير سلبي خلال الفترة الأخيرة على توقعات مستقبل ولم تكن اليونان أولى هذه المؤثرات ولا يبدو أنها ستكون الأخيرة، ولم يقل القلق في حالة البرازيل أو اليابان فهناك بالفعل ما ينبئ بأنّ القوة الشرائية في العالم وصلت إلى مرحلة ما من الرفاهة قد تؤثر على احتياجاتها مما ينتجه أبناؤها.

ترتيب الأوراق

ولكن مع التسليم باتجاه العالم كله إلى إعادة تنظيم اقتصاده وترتيب أولوياته لفتح أسواق جديدة أو التحول إلى منتجات أخرى، فإنّ السرعة التي تراجع بها سعر برميل النفط تفوق سرعة تراجع أي طلب أو بالتالي فلابد أن هناك عاملا أو عوامل أخرى، ورغم تعدد المسببات فإن الأنظار توجهت إلى المملكة العربية السعودية باعتبارها أكبر دول العالم من حيث التصدير والاحتياطي، ويقفز جنبا إلى جنب مع السعودية عنوان "النفط الصخري"، وهذا الاسم الذي كان مثيرا للسخرية قبل اعوام قليلة بات مثيرا للمخاوف الآن إذا نظر إليه من منظور الدول المصدرة للنفط التقليدي والمعتمدة عليه بشكل أساسي بصفة خاصة، ولفهم طبيعة تأثير النفط الصخري سيحتاج النظر إليه أكثر من زاوية رؤية، فهو يمثل عامل اقتصادي وعامل سياسي أيضا، فالنفط كان بلا شك الطريق الحريري للنفوذ السياسي لكبريات الدول المصدرة للنفط، والنفط شكل الدافع والمسهل لانضمام المملكة السعودية لنادي العشرين الكبار في العالم، بسبب تربعها على "بحيرة من النفط" كما يحلو للغرب النظر إليها، لذلك كان من الصعب أن تقف السعودية مكتوفة الأيدي وهي ترى البساط ينسحب من تحت قدميها بسبب امكانية استبدال الحاجة إلى نفطها السائل بـ"النفط الصخري" الذى اثبتت كل التجارب ومن ثم الاستخراج الفعلي أنه في طريقه ليحل مشكلة احتياج الولايات المتحدة لاستيراد النفط بل إنها قد تصبح من أكبر المصدرين خلال سنوات فالمؤشرات والأبحاث تقول إنّ أميركا تملك احتياطياً من النفط الصخري يتراوح بين 1.5 ترليون برميل و1.8 ترليون برميل هو ما يساوي احتياطي السعودية من النفط ثلاث مرات.

"جنون العظمة"؟

وما يراه البعض على أنّه "جنون عظمة" من السعودية بأن تغرق السوق بالنفط الزائد عن الحاجة وتترك السعر يتراجع لهذه المستويات، قد لا يكون جنونا بالمطلق، خاصة إذا نظرنا للدوافع الاقتصادية السياسية المتداخلة، فنظرة السعودية لنفوذها واقعي وتعلم أن أساسه وداعمه هو النفط، باعتبارها تمتلك المخزون والإنتاج الأكبر في العالم حاليا، لذلك فإن ظهور منافس وبديل يعد خطرا داهما لنفوذها، ومؤخرا بدأت بوادر عدم الانصياع لمرئيات وآراء المملكة تظهر في خطوات أكثر صراحة وآخرها الاعلان عن الاتفاق النووي الايراني الذي لم تكن من البداية تود لو تم بحثه، وهذا الاتفاق الأخير وبعيدا عن البعد الفكري والطائفي يمثل مأزقا آخر للسعودية بدخول بائع يعرض بضاعته بثمن عال تعبت السعودية للوصول إليه، كما أنها تريد "ركل" الشركات التي تنتج النفط الصخري من السوق مفلسة، لذلك يبدو أنها تركت الشركات تعمل وتستثمر على اعتبار أن سعر النفط عالمياً يغطي التكاليف ويوفر ربحا كبيرا، ثم هدمت آمالهم واستثماراتهم.

ومن المعروف أن طريقة استخراج النفط من الصخور هي من أصعب العمليات وتستلزم استخدام أدوات خاصة لاستخراج الصخور النفطية من تحت سطح الأرض أو من سطح الأرض نفسه، حيث تمر الصخور النفطية بمرحلة التقطير التي يتم خلالها تعريض الصخور المحفورة إلى "الانحلال الحراري" وتتضمن هذه العملية تعريض الصخور إلى درجة حرارة عالية جداً ما بين 650 إلى 700 فهرنهايت بانعدام الأوكسجين مع وجود إحدى المواد لتكوين تغير كيميائي، وهذه العمليات عالية التعقيد وعالية التكلفة؛ حيث تتراوح كلفة برميل واحد من النفط السائل المستخرج بهذه الطريقة بين 50 إلى 75 دولارا للبرميل، بما يعني أنّ بيع البرميل بسعر 45 دولارا كما هو الوضع حاليًا يمثل تدمير لرؤوس أموال الشركات التي تعمل في هذا المجال، بينما في السعودية لا يكلف برميل النفط أكثر من 5 دولارات نظرًا لسهولة الخام وسيولته وقربه إلى سطح الأرض.

سعر التعادل

ومع انخفاض كلفة استخراج السعودية لثروتها النفطية إلا أن هناك كلفة خفية يطلق عليها سعر التعادل والذي يمثل السعر الذي ينبغي أن يصل إليه سعر بيع البرميل حتى تتمكن الدولة من تغطية الإنفاق العام وفقاً لما يمثله النفط من نسبة اعتماد في هذه الدولة، وهو ما يصل على أقل التقديرات إلى 50 دولارا للبرميل، ووفقًا لآخر تقارير صندوق النقد الدولي فإنّ أسعار النفط تراجعت بما يقرب من 50% منذ منتصف عام 2014 ويذكر التقرير أنّه "على عكس الفترات السابقة التي شهدت تراجعا حادا في أسعار النفط (1981- 1986- 1998- 2008- 2009) لم تقم السعودية بخفض إنتاجها، بل زاد الإنتاج بالفعل إلى 10.4 مليون برميل يومياً خلال شهر يونيو".

وهذا التوجه من السعودية نحو مزيد من ضخ النفط السعودي استهدف كما قال وزير النفط فيها "إخراج المنتجين الهامشيين من السوق" -أي إنهاء حالة الاندفاع نحو الاستثمار في النفط الصخري- لكن نتائجه ليست هينة على الاقتصاد السعودي فمن المتوقع أن يصل عجز المالية العامة في السعودية إلى 19.5% من إجمالي الناتج المحلي خلال عام 2015. ورغم أنه سينخفض في عام 2016 مع توقف النفقات غير المتكررة، فإنّه ووفقا لصندوق النقد الدولي سيظل مرتفعاً في الأجل المتوسط، حيث ترتب على تراجع أسعار النفط منذ منتصف عام 2014 انخفاض كبير في إيرادات الصادرات وايرادات المالية العامة، مما نتج عنه عجز في المالية العامة وتراجع فائض الحساب الجاري في عام . ونتيجة لانخفاض أسعار النفط، تراجعت الإيرادات الحكومية، بينما ارتفع مستوى الإنفاق الحكومي بنسبة 14.7% في عام 2014 ، وبلغ عجز الحكومة المركزية 3.4% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2014 ، مقابل فائض بلغ 5.8 % من إجمالي الناتج المحلي في عام 2013 ، وسجل رصيد الحكومة العامة عجزا أيضا، وخلال الربع الأول من العام الحالي، زاد عجز المالية العامة بسبب تأثير تدابير المالية العامة التي تم الإعلان عنها في شهري يناير وابريل والتي بلغ إجمالي قيمتها حوالي 100 مليار ريال سعودي أو 4.2% من إجمالي الناتج المحلي، ورغم تمكن حكومة المملكة حتى الآن من الحفاظ على الوضع المالي إلا أن الثمن كان سحبا من صناديق الاحتياطي والتي وإن كانت حاليا متخمة بتريلونات الدولارات إلا أن الحل على المدى الطويل لا يمكن أن يظل معتمدا عليها لذلك فإن الرهان السعودي على أن الخسائر التي تمنى بها الشركات العاملة في النفط الصخري ستخرجها سريعا من السوق ليتوقف هذا الوافد الدخيل إلى غير رجعة عن تهديد عرش النفط السعودي.

ولا يمكن التركيز على السعودية وحدها عند الحديث عن التأثر بالتراجع الفادح لأسعار النفط، فهناك دول كثيرة سيكون التأثير السلبي عليها دراماتيكي خاصة الدول الأكثر اعتمادا على النفط -ومنها بالتأكيد سلطنة عمان- فهناك أيضا روسيا وهو ما يريح الولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت مواقف منذ ظهور بوتين على الساحة تقلقها.

النفط الصخري

أما الوضع على الجبهة الأخرى من الحرب وهو النفط الصخري فإن الشركات بالفعل بدأ التأثر يظهر عليها، فالتقارير تؤكد أن كثير من الشركات خاصة الصغيرة بدأت توقف أعمالها في التنقيب عن النفط الصخري، أما الشركات المنتجة والتي ضخت بالفعل مليارات الدولارت ومنها شركة شل التي تزعمت الاستثمار في هذا المجال بل كانت تتجه خلال شهور إلى تطوير ثوري في عمليات استخراج النفط الصخري بطرحها لما أطلقت عليه عملية التحويل في الموقع، وذلك عبر إبقاء الصخر النفطي في مكانه، ثم القيام بحفر ثقوب في الصخور التي تحتوي على احتياطي النفط، والعمل عبر تقنيات معينة على رفع درجة حرارة الأرض في هذه الأماكن وتركها للعمل على إذابة النفط في هذه الصخور ومن ثم جمع النفط الناتج في الموقع وضخه إلى السطح، وبحسب المعلن من هذه العملية فإنها تتضمن الاستغناء عن عملية استخراج الصخور من الأرض وبالتالي التقليل من التكلفة، وهذه الاستثمارات ضمن نحو 200 مليار دولار خططت الشركات لاستثمارها في مزيد من استخراج النفط الصخري ستوضع على الأرفف لحين اشعار آخر، حيث كانت تعتمد على حسابات بأن سعر النفط حتى 85 دولارا مما يحقق لها قدرة على استرداد الاستثمارات ومن ثم تحقيق أرباح خلال سنوات قليلة.

أما الوضع الحالي فإن مشروع شل كغيره يرقب الوضع عالميا، بينما الشركات الأصغر بدأت تجمع ما يمكن من أموال لتخرج بأقل الخسائر من مشروعات الاستخراج، وفعليا فهناك على الأقل ثمانية شركات اشترتها شركات أكبر خلال الشهور القليلة الماضية بعد أن شارفت على الإفلاس.

يبقى أن هناك اختلاف في نظام إيرادات النفط بين دول الخليج والغرب ففي أمريكا وكثير من الدول الأوربية فإن الدولة لا تحصل على إيرادات بيع النفط مباشرة وإنما تعتمد على الرسوم والضرائب التي تحصل عليها من الشركات التي تعمل في النفط، وبالتالي فإنها ستخسر أيضاً لكنها خسائر أقل مما يقع في ميزانيات الدول الأخرى.

وهذا التشابك والتداخل بين الاقتصاد والسياسة والتكنولوجيا قد لا يساعد على تحديد سيناريوهات واضحة لمستقبل أسعار النفط، فالدول الأكبر إنتاجا للنفط السائل قد تتحمل أن تكبد نفسها بنفسها خسائر تراجع أسعار النفط على المدى القصير وربما المتوسط، لكن ذلك لن يكون بدون فاتورة ضخمة. غير أنه على المدى الطويل فإنّ التكنولوجيا التي تتسارع خطاها قد تتوصل إلى طرق لاستخراج النفط من الصخر بكلفة أقل كثيرا، وبالتالي يعود النفط الصخري للمنافسة ويصبح هو الضاغط نحو استمرار تراجع أسعار النفط بشكل عام لتبقى لعشرات السنوات أقل من 50 دولارا. بينما في المقابل قد يحتم الحفاظ على استقرار الاقتصاد العالمي، والمصالح الأخرى لدى الولايات المتحدة والغرب خاصة في توفير فرص عمل واستخراج النفط في الغرب الضغط لتخفيض إنتاج النفط، وهو ما يستتبعه سحب الفائض في السوق وترك الأسعار للارتفاع، لكن المؤكد أن أسعار النفط ستفرض كثيرا من التغيرات في سياسات الدول الاقتصادية خاصة المعتمدة عليه كمصدر رئيسي لدخلها.

تعليق عبر الفيس بوك