السودان.. قلب إفريقيا النابض وحاضنة الطبيعة يتطلع لنهضة سياحية توظيفًا للموارد

"الرؤية" تزور "سلة غذاء الوطن العربي" وتقف عند "مقرن النيلين"

خاض التجربة- عادل الفزاري

تختلف المدن على اختلاف سكانها في مختلف بقاع العالم، وتتعدد أسباب الزيارة إلى كل الأماكن حول المعمورة لسبب أو لآخر، ولكن يبقى الأثر الناجم عن الزيارة هو الأهم لأنه يعكس للشخص مدى نجاح الزيارة إلى غير ذلك، وكذلك يبين الواقع الحقيقي للمكان المزار مع الذكرى الطيبة التي اقترنت بالمكان.

ومن أهم الارتباط بزيارة المكان مرة أخرى لأي شخص هو جمال الأماكن، وطيبة قلوب السكان، والتسهيلات المختلفة والأكل الطيب وراحة النفس والصحبة الطيبة وغيرها من الأسباب المختلفة التي تتفاوت من مكان لآخر، لكن أن تجد مكانا يحوي كل هذه الأسباب فأنت بالتالي وقعت في الحب والغرام وأصبحت أسير المكان وسجينا للزمان ورهينا للذكرى، ولقد كان.

بغض النظر عن كل ما أعرفه من معلومات تاريخية وحقائق جغرافية ومفاهيم حضارية عن هذه الوجهة الشقيقة التي أزورها جسديا لأول مرة، حيث سبق أن زرتها في الخيال مرات ومرات عبر الصور الجميلة في المنهاج الدراسي، وعبر أحاديث الزملاء الذي زاروا هذه البلاد الطيبة إلاأان الكلام والصورة تعطي واقعا مختلفا للمكان، ومشهدا مغايرا للطبيعة الجميلة التي يمتاز بها هذا البلد الذي أقل ما يقال عنه أنه الأجمل.

السودان...هو الوجهة الجغرافية، والزمان هو نهاية أغسطس الإستوائي، هناك حيث حدود البعد الأفريقي قريبا من البحر الأحمر وبالدقة في منتصف الطبيعة حيث ملتقى النهرين أو ما يعرف محليا باسم "مقرن النيلين"، لاتساع مجراهما الكبير وهما: النيل الأبيض والنيل الأزرق. وفي أواخر شهر أغسطس الصيفي الذي يسحب باقي فلوله بعد أن فرض هيمنته وذلك في مواجهة معركة الخريف أمام سبتمبر الجميل، وما أحلاه من وقت وما أطيبه من مكان.

الممشى النيلي

سكنت في فندق كورنثيا الخرطوم الراقي ذو الخمس نجوم وبالتحديد على نهر النيل الأزرق وأمام الممشى النيلي وبجانب الجسر المتصل بجزيرة توتي وسط النيلوالتي تقع قبل أم درمان أحد أضلاعالعاصمة المثلثة الى جانب الخرطوم،والخرطوم بحري، وهذا الفندق الممتاز تمّ بناؤه قبل سنوات خلت لاستضافة القمة العربية في الخرطوم ويضم مجموعة متعددة من المطاعم ذات الخيارات المتعددة والمرافق المختلفة لراحة النزلاء بشكل مستمر، وهو دليل واضح على التطور الكبير في السودان بشكل عام والخرطوم بشكل خاص.

ورغم ارتباطاتي الكثيرة بحضور الندوة التي قصدتها، ورغم زخم الأعمال واكتظاظ جدول اللقاءات بشكل مكثف إلا أنني وجدت الفرصة سانحة في بعض الأحيان للانسلال بعيدا ورؤية قلب السودان وتصفح بعض الوجوه السمراء المكتحلة بالحب من الشعب السوداني الأبي، بحكم ضيق الوقت وقصر مدة الإقامة الزمنية التي أبت الظروف تمديدها رغم ما فينا من شوق كبير وبالغ لتنشق هواء السودان ومرافقة نسمات النيل مع الطيور الرائعة التي تحلق صادحة بأصواتها الجميلة في الصباح مع دوام الموظفين وخروج الناس لكسب الأرزاق وكسب العيش الكريم.

لم أعرف أن السودان هو أصل إفريقيا ومنه خرجت الحضارات وفيه قامت الثورات ومنه خرج إعلان اللاءات العربية الثلاث الأشهر، وفيه الخير والطيبة والغذاء والماء والدواء والسكن، وفيه الأصالة والتاريخ وفي أروقته مشى المفكرون والأدباء والنجباء، ومن كلياته تخرج الأطباء والمهندسون والعلماء، وفي مدارسه تخرج التربويون والمفكرون والفلاسفة وغيرهم.

سلة الغذاء العربي

إن الحديث عن السودان يكتسب جانبا كبيرا من الأهمية في كل الأوقات وتحت مختلف الظروف فهو سلة الغذاء العربي في كل الأوقات، وهو الخزان المائي العربي لكل البلدان، وهو الحارس الأمين على مقدرات الشعب العربي، بحكم القدرات الهائلة من الأراضي التي يملكها والصالحة جميعا للزراعة بأفضل المحاصيل وأجودها طيلة أيام السنة وبكميات كبيرة وصالحة للتصدير بالخارج، وذات جودة عالية ومذاق طيب يصلح لكل الأذواق.

ولعلّ كل ما سبق هو الذي أطمع العالم فيه من حيث استغلال الثروات الطبيعية والمعدنية والبشرية الرخيصة وغيرها مما جعله عرضة للاستعمار الأجنبي، وكذلك لقيام الثورات المتصلة في بعض أجزاء السودان المترامية الأطراف التي يصعب زيارتها كلها بحكم اختلاف الطبيعة والتضاريس والسكان كذلك، ولقد ساهم الارتباط الإسلامي والعربي للسودان في بقائه طودا ثابتا في وجه الكثير من العواصف والمحن المختلفة، وعززت الهوية الثقافية الفريدة وجعلت الجميع يؤمن أن السودان هو حصن من الحصون المنيعة في كل الأوقات على الجميع.

آثار تاريخية

وبمناسبة ذكر الحصون فالشيء بالشيء يذكر من حيث التراث العريق الذي يزخر به السودان، قلما تلتفت في أي جانب من الجوانب ولا تجد أثرا ثقافيًا أو معلما تراثيا شيد منذ القدم، فهناك البوابة التركية الرائعة وهناك مصطبات الأسلحة " الطوابي" على جوانب النيل، والتي تم من خلالها إغراق أول سفينة عسكرية بريطانية تصل إلى السودان عن طريق مياه النيل، وحاليا فالسودان يشهد حراكا ثقافيا بارزا على صعيد المسارح والمراكز الثقافية المختلفة التي تعج بالرواد والمتفرجين لا سيما في الفترة المسائية التي تستقطب أعدادا مختلفة من الزوار والسواح.

ومما يعجبك في السودان هو العمائم التي يعتز الشعب السوداني بها كأنها تيجان الملك، ووقار الحكمة السودانية الموغلة في التاريخ وهيبة التاريخ المقترنة بالعمق الحضاري الممزوج بتاج رائع من الإرث المعرفي الكبير، والمكتسي بحنكة صقلتها القرون من الأزمان على رمال السودان الذهبية، وحتى اللبس السوداني الرائع يأتي بثيابرائعة لونها البيض المتنور من قلوبهم والمنسدل على أجسادهم بكل إجلال وكبرياء، وهذا الاحترام الرائع للأثواب السودانية هو مصدر احترام وإعزاز لهم في كل الأوقات وفي كل المناسبات بلا استثناء مع التأكيد عليه في المناسبات الوطنية، وللمرأة السودانية نصيب كبير من الحلي والملابس المخيوطة بكل اتقان وجهد والتي تحرص على لبسها في المناسبات والأعياد.

المطبخ السوداني أيضا يعد من المطابخ المميزة في المنطقة العربية والمتفرد بالمكونات الطازجة المجلوبة للمائدة من الحقول المحيطة بالمدينة، والممزوج بالنكهات والتوابل السودانية والتي لا تجدها إلا في السودان فقط، مع الطبخ لبعض الأطباق على الجمر فقط ولا تمسها نار الأسطوانات، مما يعطي مذاقا رائعا للطبخ ويعطيك متعة أكل لا تنتهي على لسانك، فكم شربنا من عصير التلبدي السوداني الطازج والكركدية الأحمر القاني وعصير الصبّار الحامض إلى جانب العصير السوداني من فاكهة البرتقال والجريب فروت.

ولم يستفد السودان من قدرته على زراعة محاصيل زراعية أخرى كالفراولة والمكسرات وغيرها، وهنا ينبغي الإشارة إلى محاصيل "عمتنا النخلة" من الرطب السوداني الطويل الأصفر والتمر السوداني المعتق الممتلئ بالعصارة التمرية الرائعة التي تحثك على التهام المزيد منها.

وهنا في السودان يمكن بكل سهولة الحصول على العسل السوداني اللذيذ والرائع الذي يفوق روعة كل الأنواع الأخرى من العسل بسبب توافر أسباب الغذاء للنحل في كل الأوقات وفي كل المواسم.

العطارة والأعشاب

ويزخر هذا البلد الجميل بأنواع شتى من محلات العطارة والأعشاب أو "التيمان" كما يطلق عليها محليا، والتي تجد فيها الأنواع الأصلية من الأعشاب والزبوت والمكونات والخلطات كالحناء وزيت الخردل والعشبة السودانية الأشهر وهي أمبورجنا، وكل هذه المحاصيل تدعمها أسواق مستهلكة بشكل كبير حيث تشكل السلطة الخضراء والمحاصيل الزراعية قوام الوجبات السودانية الثلاث سواء بشكل طازج او يتم إعدادها بشكل محترف بواسطة ربة البيت في المطبخ السوداني الشهي، ومن المعروف أن السودان بحكم امتلاكه لأطوال نهرية كبيرة فإنّ السمك النهري السوداني بمختلف أنواعه كالبلطي والبربور وغيره يحوز على مكانة الصدارة في المائدة السودانية لأهميته ولذته، وتجد في أسواق أم درمان ركنا خاصا لبيع وشوي الأسماك بجانب سوق الأسماك، وغاليا ما يكون مكتظا لا سيما أوقات الغداء والعشاء من السودانيين أو السواح والمقيمين، ويمكن للراغبين كذلك الحصول بكل سهولة على أنواع اللحوم المختلفة من البقر والجاموس والغنم وغيرها في الأسواق الشعبية في مدينة أم درمان العريقة.

والشعب السوداني مولع بالرياضة ومتابع دائم لها ولعل الديربي الرياضي الكروي الدائم والمتجدد بين فريقي الهلال والمريخ يشكل مناسبة كروية مهمة لجميع عشاق الكرة في السودان، وتجد أنصار الفريقين يملأون مدرجات الملاعب في كل الأوقات وسط أنغام التشجيع المتواصلة بلا سكوت وحتى بعد المباراة تستمر التحليلات والمتابعات بين الفريقين، وذلك وسط منافسة أقل شدة من بعض الفرق الرياضية الأخرى كالموردة والنيل، وأهلي شندي وغيرها.

زيارة لا تنسى

إنّ زيارة جميع أنحاء السودان هو جهد كبير ويجب أن يتم الإعداد له قبل فترة طويلة إلا أن هذه الزيارة السريعة لن تكفي فهناك بعض المعالم التي نرغب في زيارتها ولم يتسن لنا الوقت كسد مروي وجزيرة توتي وركوب النيل في رحلة نهرية نيلية وغيرها الكثير من الفعاليات إلا أن ما فعلناه كان كافيا لنا ولو لبرهة وأعطتنا تصبيرة صغيرة إلى أمل قادم، وكان من أهم ما فعلناه هو دخول القصر الجمهوري الرئاسي الجديد في الخرطوم الذي بنته الصين كعربون محبة وتعاون.

ولم أشهد خلال زيارتي قط ما يشين أو يعيب في الأرض أو على الطرقات بل وجدت الجميع سهلا متسامحًا في جو تسوده الألفة والتعاون بينهم كأنّهم أخوة لأم واحدة حتى في الشارع من إفساح الطريق لسيارة للعبور، أو في الممرات أو في قاعة الندوات، ولا أنسى ما حييت البساطة التي تغشاهم أثناء تعزيتي لأحد الزملاء أثناء تواجدي في السوادن، فطبتم يا أهل السودان وطابت أنفسكم وطابت بلادكم الغالية.

لقد سكنت الطيبة قلوبهم جميعا بلا استثناء فكانوا بحق علامات فارقة في هذه الزيارة السريعة إلى أرض الحضارات والتاريخ العريق، ومنبع التقاليد والعادات الأصيلة، هناك حيث ملتقى النهرين، حيث لا يزال الخير رقراقا ينساب بكل المحبة والطيبة، ولن أنسى السودان ما حييت وسأظل متعلقا به على أمل زيارته مرة أخرى في القريب العاجل أو المستقبل المنظور.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة