حاتم الطائي
شهد القرن العشرون اندلاع حرب كونيّة اعتمدت بعض معاركها على الذرة والإلكترون كما حدث في هيروشيما ونجازاكي إبان الحرب العالمية الثانية، إلا أنّه في نفس الوقت كان إيذانًا بنهاية الحروب الكونية، وتسارع إيقاع العالم نحو الاكتشافات العلمية والنظريات المذهلة والثورة المعلوماتية التكنولوجية التي ساعدت الدول العظمى على امتلاك تكنولوجيا أسلحة الدمار الشامل بإمكانها أن تمحو العالم في دقائق معدودة، ويعني ذلك حرفيًا أنّ اندلاع أي حرب كونية أخرى ستكون وبالاً ودمارًا للعالم برمته وربما نهايته.. وبالطبع لا يعني ذلك أنّ الصراع بين الكبار قد انتهى؛ بل تحوّل إلى أشكال وأنماط أخرى من الحروب؛ منها الحروب الاقتصادية، والإلكترونية، وسياسة الاحتواء والتوافق، والإبقاء على المصالح المشتركة، وتوزيع مناطق النفوذ في العالم ضمن قواعد اللعبة بين الكبار والفاعلين الدوليين، وهناك أيضًا حروب تدار بالوكالة متباينة التأثير؛ ويعد عالمنا العربي مسرحًا خاصا وأرضًا خصبة لها لاحتضان تلك الحروب، وتستخدم فيها دولنا العربية كبيادق يزج بها في أتون الصراعات الإقليميّة والمحليّة، وكأوراق تفاوض رابحة من ناحية الشد والجذب والمساومات في مزادات اللاعبين الدوليين الكبار.
ومع استفحال ديناميّة الصراع بين الأمم والأزمات الاقتصادية العنيفة يتساءل كثير من المحللين: هل سنشهد غروب شمس الولايات المتحدة الأمريكية قريباً؛ كما غربت شمس بريطانيا التي كانت يومًا ما الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس؟ وهل سيشكل التنين الصيني الصاعد بسرعة الصاروخ القوة العالمية الجديدة؟
إنّ نظرية التاريخ وصيرورة الأيام تُثبت أنّ دوام القوة من المحال، ولا يمكن لأية قوى مهيمنة أن تملك خاصية الديمومة أياً كانت قوة هيمنتها.. إنّها دورس يعلمنا إيّاها التاريخ وقراءة الأيام..
والمتأمل لحالة التنين الصيني جيدًا يلمح كثيرًا من الأرقام والبوادر التي تشير إلى بزوغ نجم جديد قادم من الشرق وبقوة، الأمر الذي أوجد معطيات جديدة حتّمت تغيير أوراق اللعبة العالميّة بما يساير العصر وتقلباته التي تندرج ضمن خانة المتغيرات.
ويرى كثير من المحللين السياسيين والأكاديميين المتخصصين أنّ الصين بنهضتها قادرة خلال العقدين القادمين على تجاوز الولايات المتحدة الأمريكية، ويعزون ذلك بشكل أساسي لارتفاع معدلات النمو الاقتصادي الذي حققته الصين خلال العقدين الماضيين، ولا يمكن لهذا التفوق أن يمر بسلام.
فمنذ إصلاحات دينج شياو بينج في الثمانينيات احتفظت الصين سنويا بنسبة 10% من النمو لتتضاعف قوتها الاقتصادية وتحل في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة؛ ومتجاوزة اليابان بل إنّ صندوق النقد الدولي نشر تقريرًا في العام 2014 عن آفاق الاقتصاد العالمي؛ اعتبر فيه الاقتصاد الصيني أكبر اقتصاد في العالم، وتجاوز حجم الاقتصاد الأمريكي من ناحية "تعادل القوة الشرائية".
أما من ناحية المقارنة العسكرية فتقدر الموازنة العسكرية للصين بـ132 مليار وهو ربع ما تصرفه الولايات المتحدة، ويوجد للولايات المتحدة العديد من القواعد العسكرية خارج أمريكا، ولا يوجد للصين قواعد عسكرية خارج حدودها، كما أنّه ليس للصين تاريخ استعماري فيما تمارس الولايات المتحدة منذ أكثر من سبعين عاماً غزو الدول والاحتلال العسكري ولها تحالفات عسكرية وسياسيّة واسعة؛ فقد اختارت الصين التقدم الاقتصادي أولا فيما اختارت الولايات المتحدة الامريكية الخيار العسكري جسرًا للتفوّق والهيمنة.
وطفت إلى السطح تكهنات سياسية تعزو توقيع الاتفاق النووي الإيراني الأمريكي إلى أنّ الأخيرة ترغب في التحرر من التزاماتها في الشرق الأوسط لتتفرغ لصعود التنين الصيني، وتحول بوصلة صراعها الجيوسياسي اتجاه الصين. ويعضد ذلك ما كتبه مايكل فيلزبري -أحد كبار الخبراء الإستراتيجيين الأمريكيين المقربين من البيت الأبيض- في كتابه الجديد "ماراثون المائة عام" والذي قال فيه محذرا إنّ لدى الصين مخططا إستراتيجيا سريا يسعى لإزاحة الولايات المتحدة الأمريكية من المشهد العالمي وذلك تزامنا مع احتفال التنين بمرور مائة عام من الثورة الصينية.
ولم تعد خافيًة على أحد أجواء التوتر التي تسود بحر الصين الجنوبي إثر النزاع القائم بين بين الصين وتايوان وفيتنام واليابان حول بعض الجزر، وادعاء كل طرف أحقيته في السيادة عليها. حتى باتت هذه الجزر مسرحًا لاستعراض القوة بين قوى مختلفة، وعلى وجه الخصوص بين الصين واليابان في بحر الصين الشرقي وكذلك بين الصين ودول أخرى في بحر الصين الجنوبي، وبين اليابان وكوريا الجنوبية في بحر اليابان مما قد يؤدي إلى حدوث تداعيات على منطقتي شرق وجنوب شرق آسيا بأسرهما وربما إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.
ودفع شروع الصين في بناء جزر اصطناعية في بحر الصين الجنوبي لإقامة مدرجات طائرات ومنارات عسكرية ومرافق عسكرية؛ البرلمان الياباني لمناقشة مشروع حول مراجعة الدستور يسمح بمزيد من القوى العسكرية للجيش الياباني، وإن كان كثير من قطاعات المجتمع الياباني تعارض هذه الخطوة إلا أن البعض يرى أنها لم تأت من فراغ بل جاءت بإيعاز من أمريكا لمناوشة الصين في الوقت والمكان المناسب.
وستضع زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ للولايات المتحدة الأمريكية الشهر القادم العديد من الخلافات بين الطرفين على طاولة الحوار، والتي يجري الإعداد لها جيدًا من قبل الإدارتين لتجاوز نقاط التوتر والنزاع لصالح تعزيز جوهر المصالح المشتركة..
ويبقى القول أنّ ملف السيادة الصينية في بحر الصين الجنوبي الذي تتدخل فيه الولايات المتحدة لصالح حلفائها يضع الدولتين في مواجهة كلاسيكية ظاهرها النزاع حول الجزر وباطنها وقف التمدد الاقتصادي والسياسي للتنين الصيني العملاق، والذي تؤكد الأرقام والشواهد التاريخية نهوضه غير المسبوق..