الكلباني: على من شهدوا بزوغ فجر النهضة توثيق ذكرياتهم لتكون رافدا لتسجيل التاريخ الوطني

← الكثيرون لا يرون في حياتهم ما يستحق التوثيق.. وقليلون من يهتمون بنقل الخبرات والتجارب للأجيال الجديدة

← بدأت تدرُّجي الوظيفي بعد قبولي المساهمة في مهمة تدريب الشرطة المتطورة

← فك القيود وحراسة المساجين وحمل "الفنر"وغلق بوابة مسقط.. أول مهام الشرطة قديمًا

← فضيلة التكافل الاجتماعي كانت تهوِّن على المواطنين قسوة ظروف الحياة اليومية

← قبل النهضة كان الناس يبحثون عن مصدر الرزق في الصيد والزراعة فقط

← الجبال كانت مصدر خير للأهالي من خلال قنص الضباء والوعلان وجمع عسل النحل

← رصدت ذكريات طفولتي عن الألعاب الشعبية التقليدية في "جندي من مسكن.. شهد الذاكرة"

 

لا يذكر الفريق أول مُتقاعد سعيد بن راشد الكلباني، تاريخَ ميلاده على وَجْه الدقة، لكنَّه يذكر جيدًا تاريخَ بلدته مسكن -مسقط رأسه في عبري بمحافظة الظاهرة- وتاريخ عُمان الذي عاصره قبل وأثناء النهضة المباركة تحت قيادة مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم.
وفي حواره مع "الرُّؤية" يسترجعُ أول مفتش عام للشرطة والجمارك بعضًا من ذكرياته ومسيرته التي تختلط بذكريات ومسيرة الوطن؛ حيث كان الرجل شاهدا على طبيعة الحياة في السلطنة أيام كانت بالغة القسوة قبل بزوغ فجر النهضة في سماء الوطن، كما كان الكلباني شاهدًا على تفاصيل العمليات العسكرية البطولية في جبال محافظة ظفار حتى أصيب فيها.

عبري - ناصر العبري

وفي مُقدِّمة كتابه، يُشير الكلباني إلى رُؤيته لكتابة السيرة الذاتية، بقوله: إنَّ "كثيرين لا يرون في حياتهم ما يستحق توثيقه، وقليلون من يهتمون بسرد الذكريات والدروس للأجيال القادمة". وعن ذكريات طفولته وتجربته في التعليم قبل عهد النهضة المباركة الذي أحيا رُبوع عمان بالخير والنماء بقيادة مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم، يقول الفريق أول متقاعد سعيد بن راشد الكلباني، إنه ذكر بين سطور كتابه "جندي من مسكن.. شهد الذاكرة" الكثيرَ من تفاصيل أيام دراسته الأولى، وكيف كانتْ ظروف الحياة اليومية صعبة جدًّا في بلدة مسكن كحال غيرها من المناطق في مختلف محافظات السلطنة؛ من حيث: المسكن، والمأكل، وطبيعة العمل المتاح؛ حيث كان الناس مشغولين بالحصول على أيِّ مصدر للرزق من النخيل أو الزراعة بشكل عام.
وأضَافَ الكلباني بأنَّ الأهالي كانوا يتفنَّنون في استغلال كلِّ خيرات النخيل، ويستفيدون من ثمرتها وسعفها وكربها وليفها؛ بحيث يرمون أيًّا من مخلفاتها، وكانت أغلبية أنشطة الزراعة تتركَّز على البقوليات من: عدس وفول وبر، إلى جانب شجرة العظلم التي تستخرج منها المواد التجميلية؛ مثل: النيل؛ ليباع في سوق عبري الذي كان اسمه سوق النياييل، كما يوجد في الخابوره سوق آخر بحمل الاسم نفسه.

الحياة قبل النهضة
وأشَارَ الكلباني إلى أنَّ الجبال كانتْ تمدُّ الأهالي بما تختزنه من الخير الوفير والنعم من خلال قنص الضباء والوعلان وجمع عسل النحل؛ حيث كان الصيد في ذلك الزمان مُباحا، وكان الأهالي بفطنتهم يعرفون موقعَ كل شجرة تنبت في أعالي الجبال وفيما تُستخدم سواء كطعام أو دواء أو علف الحيوانات، وكانتْ مُعظم المواد الغذائية تُجمع من المنطقة، وهو ما لا يُقارن بالوضع الحالي؛ حيث لا تعرف الأجيال الجديدة الكثير عن تلك الأشجار.
وتَابَع الكلباني بأنَّه على الرَّغم من صعوبة ظروف الحياة، كانت فضيلة التكافل الاجتماعي أقوى بين الناس؛ حيثُ كانوا يتضامنون معًا وقت الصعاب، ويتعاونون في أعمال الزراعة أو صناعة المنتجات المحلية.
وعَن الألعاب الشعبية القديمة التي كان يُمارسها الأطفال في تلك الحقبة، يقول الكلباني: إنَّ فصول الكتاب تتضمَّن الكثيرَ من الإشارات عن تلك الألعاب.. لافتا إلى أنَّ البلدة لم يكن بها أي مدرسة باستثناء مدارس تحفيظ القرآن الكريم، وكان الأطفال يتلقون الكثير من الأناشيد يوميًّا إلى جانب أدعية ختم القرآن الكريم.

شرف الإصابة


وحَوْل طبيعة مشاركته في العمليات العسكرية بجبال محافظة ظفار، وإصابته في تلك العمليات، قال الفريق أول متقاعد سعيد بن راشد الكلباني، إنَّه مثل ما هو مُتبع في قوات السلطان المسلحة، حصلتْ فرقتنا على معلومات استخباراتية عن وجود مجموعة مناوئة للحكومة في تلك المنطقة، وانطلقنا من مُعسكر أم الغوارف عن طريق حمرين؛ للبحث عن مواقعهم على وجه التحديد. وكانت الطريق وعرة، وتنقلنا من حمرين إلى عقبة الياسمين وعقبة الحطب وإلى ثمريت، ثم اتجهنا إلى الجنوب ونزلنا إلى وادي لا يحضرني اسمه، وكنا نحمل العدة على الحمير، وبدأنا تمشيط الجبل والوادي، وقبل المغرب نَفَد الماء منا، ولم نجد بديلا في منطقة العيون، وكان معنا دليل لكن لم يخبرنا عن مكان وجود الماء تحديدا، وفي اليوم الثاني زوَّدتنا الطائرة ببعض الماء، وكان مُختلطا برائحة البترول وشربنا منه، وبدأنا البحث عن مصدر آخر للماء في اليوم التالي، وذهبنا برفقة الدليل ووجدنا كمية بسيطة من الماء غير النظيف ووضعنا قطعة قماش لتصفيته والشرب منه، ورجعنا إلى زملائنا، وكان الجبل مرتفعا، وصعوده شاقا، وبعد وصولنا أخذنا مجموعة أخرى من الزملاء إلى مقرِّ الماء، وكُلفت بأن أنزل معهم، وكنت حينها ضابط صف، وذهبنا إلى الماء وشرب الأفراد، ومن ثمَّ رجعنا مرة أخرى، ورأينا أنه لابد من طلب المساعدة بتزويدنا بالماء عبر الطائرة. وأبلغنا الدليل أنه يعرف مكانًا آخر يوجد به ماء أوفر، وذهبنا معه بعد صلاة الفجر، وعند وصولنا إلى رأس وادي جردون غرب قبر النبي أيوب -وحسب كلام الدليل- يوجد الماء بالأسفل، وانتشرنا حسب أوامر القائد لتأمين الحراسة، على أن يذهب البعض مع الدليل لاستطلاع الماء، وذهب مع المجموعة الرقيب محمد بن سيف الحوسني، وبعد حوالي مائة خطوة قُوبلوا بإطلاق النار من قبل المجموعة المعادية، وقمنا بالرد عليهم بالمثل، ووقعتْ الاشتباكات والإصابات في الطرفين، واستشهد بعضُ الأفراد، وكنتُ ضمن المصابين وضمَّدت نفسي بنفسي، وتم إخلاؤنا إلى المطار المصغَّر، ونقلت إلى أريف "محطة"، وتم إرسال سَرية -أو فرقة- على رأسهم يوسف بن خلفان البوسعيدي "عميد لاحقًا" وحمد بن مانع لمساعدتي، ومن ثم تم نقلنا إلى العيادة لإجراء الإسعافات الأولية وجبيرة استنباطية مع حقنة المورفين، وبقينا في ساحة انتظار الطائرة لنقلنا إلى مصيرة. وفي اليوم التالي، نُقلنا إلى بيت الفلج، ومن ثم إلى مستشفى مطرح "طوماس"، وبعد فترة إلى الشارقة، ثم إلى البحرين؛ لتلقي باقي العلاج وإجراء عملية جراحية، وكان يُشرف على علاجي الدكتور علي فخر.
وتَابَع الفريق أول الكلباني سَرْد ذكرياته عن تجربته مع الإصابة، بقوله: بعد رُجوعي من البحرين طُلبت من قبل العميد، وأبلغني أنَّ الكتيبة في صلالة، ويجب عليَّ الانتظار في القلعة حتى ترجع الكتيبة، واقترح الملازم علي بن محمد البلوشي أنْ أذهبَ في إجازة، على أن ألتحق بالكتيبة في بدبد بعد عودتي، وكان نائب القائد، وأوكل لي الجانب التجنيدي، وبدأت البحث عن جنود، وشعرتُ حينها بإمكانية إعفائي من العمل أو تكليفي بالعمل في المخازن، وصبرت حتى تمَّ إرسالي في مهام جديدة. وفي أحد الأيام، طُلبت من قبل نائب القائد، وأبلغني أنَّ السلطان السيد سعيد بن تيمور يُريد أن يدرِّب شرطة مطورة، ووافقت على المهمة خوفا من أن ألقى مصير زملائي الذين سبقوني، وأبلغني أن أذهب إلى الرائد في قيادة جند عُمان في السيب، وذهبتُ مع الوكيل سالم بن سعيد الصبحي إلى الرائد، وكنا سبعة أشخاص، وبدأنا التعرُّف على مهمة الشرطة البدائية والمهام المطلوبة، وكان الرائد هو الذي يحاضرنا، وكان المترجم السيد سيف بن حمود البوسعيدي. أما عن المهام المطلوبة، فهي التدريب على فك القيود وحرس المساجين وكيفية حمل "الفنر"، وكيفية غلق بوابة مسقط، وبدأت تدرُّجي الوظيفي من تلك المرحلة.

أهميَّة المذكرات


وردًّا على سؤال عن سبب إقدامه على تأليف الكتاب، يقول الفريق أول متقاعد سعيد بن راشد الكلباني: بعد خروجي من جهاز الشرطة، التقيتُ الأخوة والزملاء الذين ألحُّوا عليَّ لكتابة مذكراتي، وكنت أقول: "إن شاء الله، وكل شيء في وقته"؛ لأنني أحتاج قسطا من الراحة لاسترجاع تلك الفترة، لكن قدَّر الله وما شاء فعل، وتعرَّضت لكسر وخُضت تجربة العلاج بالخارج، وأجريت عدة عمليات، كان آخرها في أكتوبر 2010. وفي تلك الفترة، زارني العقيد متقاعد عبدالوهاب بن عبدالكريم البلوشي من شرطة عمان السلطانية، وهو أحد من شجَّعوني على تأليف الكتاب، وكانت زيارته لي في فندق تشرشل، وقلت له: "سأحاول تسجيل النقاط، واسترجاع الذكريات؛ بحيث عندما أكتب لا أكتب عن الشرطة فحسب، بل أكتب عن الذاكرة الكاملة التي عشتها في طفولتي، وفي خدمة الوطن الغالي".
وتَابَع الكلباني: بدأتُ أجمع النقاطَ منذ العام 2010، وزرت كلَّ المناطق في المملكة المتحدة كي أسترجع ذكرياتي، وزرت جبال محافظة ظفار، والمنطقة التي أُصبت فيها، وباقي محافظات السلطنة، ثم بدأنا البحث عمن يقوم بتدوين تلك الذكريات، ووقع الاختيار على الدكتور عبداللطيف مراد، الذي كان يعمل معنا مُتخصصا في التنسيق وتدريس اللغة الإنجليزية، وبدأنا تسجيل المعلومات والذكريات لمدة 8 أشهر، وجمعنا نحو 46 مقطعا، كل مقطع ساعة ونصف الساعة تقريبا. وقام العقيد متقاعد عبدالوهاب بالبحث عن شخص آخر من الإخوة السودانيين يُدعى عبدالوهاب بن خير الله، وكان يعمل مُترجما بجهاز الشرطة، وتعاقدنا معه ليقوم بمهمة تفريغ المعلومات من المقاطع المسجَّلة إلى الأوراق. وعند الانتهاء، جلسنا للاتفاق على أسلوب تنسيق المواضيع، واستغرقنا نحو سنة وتسعة أشهر، ثم بحثنا عن شخص آخر يتولى طباعة الكتاب ومراجعته، واتفقنا على الأستاذ محمد الرحبي، وتناقشنا معه، وأبدى استعداده بكل سعة صدر، وسلمته المادة واستغرق وقت التنسيق والإخراج والطباعة عامًا تقريبا؛ لمراجعته وإنهاء الإجراءات المتبعة من قبل المؤسسات الحكومية.
واخْتَتم الكلباني بتوجيه رسالة إلى الأجيال الجديدة، مُشدِّدا على أهمية الالتزام بالعادات والتقاليد العمانية الأصيلة، ووجَّه الشباب إلى تجنُّب ظاهر تقليد الثقافات الغربية التي قد لا تتفق وعاداتنا الشرقية.. لافتا إلى أهمية الانتباه عند الاستفادة من التطور التكنولوجي في مختلف مناحي الحياة؛ بحيث لا يضر بأمن وسمعة البلاد، والعمل على استغلال تلك التقنية الاستغلال الأمثل.. مضيفا بأنَّ مولانا جلالة السلطان بَنَى هذا البلد منذ مطلع السبعينيات، وهناك آلاف العمانيين يتذكرون هذه الحقبة، وننتظر منهم تسجيل ذكرياتهم لتكون رافدا للتاريخ الوطني.

تعليق عبر الفيس بوك