يُخبرونني عن هيبة المعلم!

هلال الزَّيدي *

ذات مساء، وبينما الليل يُسدل خيوطه، وأنوار الشوارع تُبدد عتمة الغسق، جاءته كعادتها لسرد حكايات يومها ابتداءً من استيقاضها وحتى عودتها إلى حضن أسرتها الدافئ بعد تأدية واجب العمل، كأنها تروي قصصا من كتاب ألف ليلة وليلة للجاحظ، أو تقلب رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، أو تقرأ أناشيد العِلم والشموخ في كتاب اسمه "أقرأ" -إن كنتم تتذكروه- أو تعرب جملة مفيدة وتوضح بناءها اللغوي من كتاب كان اسمه "لُغتي"؛ لذا فهو يستجمع كلَّ مؤشرات السمع ومحركات العيون لينصت إليها أولا ثم يتفحص وجودها بين يديه.. تسترسل في حديثها تُقلب صفحات يومها، تُعبّر عن رأيها وتشخص الأسباب والمسببات.. جملة من القضايا تطرحها، لكن القضية الشائكة التي تُسيطر على محتوى التركيبة القصصية الواقعية هي تلك المواضيع المتعلقة بمعلم الأجيال؛ وذلك الصرح العلمي الذي لم يعد كما كان سابقا.. هل بفعل فاعل، أم أنَّ الفاعل ضمير مستتر تقديره "هو"؟ إلى جانب تلك الإجراءات البيرواقراطية التي حوّرت مكان النافذة إلى مكان الباب؛ لأنَّ الحديث وترتيب جُملِه لم يأت إلا عبر المعلم، ولأنَّ الحروف وصفّها في جمل ومعلومات لا تستقيم إلا من خلال "المعلم"، ولأن بناء الأوطان وشحذ الهمم في أداء الواجب لم تتفتح أزهارها إلا بطبشور معلم عندما خطها بيده، ومع حديثها الجميل حول بداية العام الدراسي الجديد ومفاجآت الأيام الأولى كانت هناك جملة من الذكريات المسجونة في ذاكرةٍ بدأت تشيخ من تقدم التكنولوجيا وتبدل الأزمنة؛ فهي مليئة بالغُبار كتلك الطاولة التي غطاها الغُبار بعد إجازة صيفية أو كذاك الكرسي الخشبي الذي بدأت أعمدته الحديدية تتصدأ من رطوبة المكان وهجرة الإنسان.. أو كتلك النافذة التي تهشم نصفها.. لذلك كان التعامل مع تلك الذكريات بشيء من الحذر كي لا تتكسر أو تتطاير مع تزاحم الأفكار ليوم يختلف عن أمسه وغده.

كان حديثها معه ليلة الأربعاء قبل نهاية الأسبوع الأول من بداية العمل الرسمي للمعلمين فقط دون الطلاب، قالت له: "هل يُعقل أنَّ الأحد القادم يبدأ الطلاب يومهم الأول، والمدرسة كأنها مدينة أشباح.. فهي مليئة بالغبار، وطاولات وكراسي مبعثرة ومسار ضبابي بين إدارة المدرسة في كيفية استقبال الطلاب في يومهم الأول؟! هل سنصف لهم باقات ورد ونفرش لهم السجاد الأحمر في المداخل الرئيسية فقط، أم من البوابة الكبيرة؟ أو هل نكتب لهم أوبريت العودة ونحتفي في اليوم الأول معهم؟ أو هل نترك لكل معلمة "مربية فصل" حرية الاحتفاء مع طلابها. وهنا تتوقف لوهلة من الزمن، ثم تعود للحديث: كيف ذلك، ونحن ما زلنا لم نعرف رأسنا من أرجلنا.. ولم تُقسم الفصول ولم تُوضع جداول الحصص.. ولا نعرف ماذا فعلنا في الأسبوع الأول، ما عدا تلك القدور الراسيات المتقاطرة بأنواع المأكولات، وأحاديث عن السفر وأفضل الأماكن لتناول وجبة عشاء بعيدة عن صخب الطلاب، وأمور أخرى كثيرة".

في تلك اللحظة، يبدأ في تشغيل الذاكرة لديه، فجأة تقاطعه بعد توقفها.. وتقول له: "تصدق حتى العمّال في المدارس ما عارفين ينظفوا من كثرة الغبار في أروقة المدرسة.."، وما زالت الأحاديث تأخذ بعضها البعض وتخدش تلك الأحداث كبرياء الذاكرة بعد أن بلغت من الكبر عتيا، لكنها تُحافظ على تذكر تفاصيل تلك اللحظات لترسم منها سندا للمستقبل في بناء هذا الامتداد اللامتناهي.

سيدتي العزيزة.. أتذكر عندما تذوبُ الفتيلة في "سراج" البيت من أجل تتمة الواجب المدرسي.. وأتذكر "جمعة وخميس ومحمد وخالد وعبدالله" عندما يحملون كتبهم ودفاترهم في كيس ممزَّق، وكيس آخر فيه خبز مدهون بسمن مع حبات السكر، مع كسرة من التمر لسد سغبات جوعهم.. وأتذكر الأستاذ طه القادم من تونس الخضراء عندما تفوح رائحة عطره في جنبات المدرسة، وأحمد عبدالرحمن، ومحمد العسري، ولحسن حسن القادمين من فاس وطنجة وامتدادات المغرب العربي عندما كانوا يلقنونا دروسا في اللغة العربية خارج نطاق تخصصهم، والأستاذ سِبت رمضان ووداعة القادمين من سودان واحد عندما كانا يلقنوننا أبجديات اللغة الإنجليزية، وتذكرت هيبة مدير المدرسة عندما كان يقف في مقدمة طابور الصباح، ولا أنسى كذلك هيبة "سلوم الفرّاش" الذي يتأبط دفتر الغياب ليمر به من فصل إلى آخر، وأتذكر اليوم الأول الذي نسابق فيه أنفاسنا للعودة إلى مدرسة مهجورة بعد انقضاء فترة الإجازة الصيفية.. تذكرت تسابق سليمان وسرحان وحمود وياسر على الظفر بشيء في الإذاعة المدرسية، تذكرت سيدتي القرآن الكريم والحديث الشريف والحكمة والكلمة والابتسامة التي تختم بها الإذاعة المدرسية فقراتها، تذكرت غرفة المعلمين التي كانت توازي المسجد في قدسيتها؛ فلا نستطيع دخولها إلا حاملين كراسات الواجب بصحبة المعلم؛ لتصبح الآن سوقا للملابس وآخر لتداول الأسهم والعقارات.. تذكرت تزاحمنا على مسح السبورة أمام الأستاذ وكم كان يفتخر من يَطلب منه الأستاذ القيام بذلك.. إنها براءة الفكر والمعتقد، إنها بساطة الحياة والسعي نحو العلم.. تذكرت تلك "المكنسة" المكسورة من منتصفها التي يمسح بها الطلاب فصولهم الدراسية، تذكرت تلك اللوحة المعلقة في مؤخرة الصف كُتب عليها جدول النظافة اليومي الذي يُجبر الطالب على القدوم باكراً لتنظيف الفصل؛ لأنه لم يكن هناك عمَّال يقومون بالتنظيف، تذكرت لوحة الشرف ولوحة أنظف طالب في المدرسة، ولوحات ذلك الصرح الذي يتفجر علما ومعرفة.

سيدتي، تذكرت هيبة المعلم التي لم تصنعها قوانين الوزارة؛ لأنَّ المشرع للقوانين المعلم نفسه؛ لذا كانت هيبته أينما حللنا حتى خلف أسوار مدرستنا التي تعانق تلك الجبال.. كم هي مؤلمة الذكريات عندما نضعها للمقارنة! فالمعلم كان إنسانا عظيما ومقودا حكيما، بعكس أن يكون ممتهنا للتدريس من باب المهنة أو الوظيفة لأداء ساعات عمل فقط، وجمعينا يتفق على أن إستراتيجية إعداد المعلم لم تعد هي ذاتها، وكلنا يدرك أنَّ المدرسة لم تعد ملاذا تربويا وثقافيا وعلميا وأخلاقيا.. إلا ما رحم ربي؛ لذا سيدتي عليكم إعادة هيبة المعلم بأنفسكم حتى يكون لدينا جيل يحترم ويقدس المعلم قبل المدرسة.

سيدتي، الأحلام كثيرة، لكن إشارة وضع الأهداف ضعيفة وغير عملية؛ فشخصيتك هي من تجبر الآخر على وضع خط أحمر لا يمكن تجاوزه.. حتى وإن كان المعني بالعملية التربوية لا يُجل المعلم.. عليكم أن توقروا أنفسكم وتبنوا لكم مسارا حتى وإن تقاطع مع مسارات المتموضع على كرسي القرار.

-------

همسة:

لم يمل خميس يوما من مسح السبورة حرصا منه ليحظى بالذهاب إلى غسل يديه ويعبر عن ولائه للمعلم.. كما أنَّ هديب لا يزال يتذكر جملته الشهيرة عندما طلب منه معلم اللغة العربية ذكر مثالا يحتوي على مفعول مطلق، ليجيب بعد التفاتات ومخاض عسير "رحّا الجو رحّاً".. ليجيبه المعلم: "يخرب بيتك يا هديب.. إيه ده رحّ". هي ذكريات تأسَّست على هيبة المعلم، وعلينا جميعاً أن نُعيد هيبة المعلم ونشاركه المنظومة ابتداءً منه نفسه وانتهاءً إلى ولي الأمر الذي عليه أن يُعلم أبناءه أنَّ العلم احترام المعلم أولا وأخيراً. وعليه ألا يكابر إذا زجر أو ضرب المعلم ابنه؛ لأنَّ الضرب ملح العلم شريطة ألا يكون مبرحاً؛ فلنعوِّد أبناءنا شظف العلم والتربية، لا أن نبنيهم مُرفَّهين غير واعين وفاهمين للحياة.. وكل عام وهيبة المعلم بألف خير.

* كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك