الاقتصاد العماني في ميزان "صندوق النقد": التعجيل بـ"تصحيح" أوضاع المالية العامة "إجراء حصيف"

14.8% العجز المتوقع في المالية العامة وفق تقديرات "صندوق النقد"

تحذيرات من زيادة الدين الحكومي لأكثر من 70% من الناتج المحلي بحلول 2020

نصائح بالتدرج في رفع الدعم عن المحروقات وتأسيس شبكة للأمان الاجتماعي

التوسع في الضرائب وإلغاء "إعفاءات" لتوفير إيرادات إضافيّة بالموازنة

إشادات بـ"مرونة" الجهاز المصرفي رغم أهميّة مراقبة المخاطر الناشئة

الرؤية- نجلاء عبدالعال

هو عام الأزمة.. هكذا يرى عدد من الخبراء والمحليين الأوضاع الاقتصادية العالمية خلال العام الجاري 2015، ففي الوقت الذي تعاني فيه الأسواق العالمية من أزمة حقيقية في ظل تراجع أسعار النفط على نحو مؤثر على اقتصادات الدول المعتمدة على صادرات الخام في تمويل ميزانياتها العامة، وكذلك أزمة أسواق العملات والبورصات الناشئة وما يتوالى من مشكلات، سواء تلك القادمة من الجنوب الأوروبي في اليونان، أو مخاوف سعر الفائدة الأمريكية، ومشكلة اليوان الصيني مؤخرًا... تظل السلطنة واحدة من الدول التي تتأثر اقتصادها بما يحدث في دورة الاقتصاد العالمي، إذ بات من المؤكد التداعيات السلبيّة على الاقتصاد الوطني جراء تراجع أسعار النفط، وهو ما تجلى بقوة في تقرير حديث لصندوق النقد الدولي، دعا فيه السلطنة إلى اتخاذ تدابير مبكرة لـ"تصحيح" أوضاع المالية العامة، من خلال حزمة إجراءات يقترحها التقرير، لكنّه في المقابل أشاد بمرونة الجهاز المصرفي.

ووفقا للأسعار الحالية لبرميل النفط، فإنّ السلطنة واحدة من أكثر الدول المتأثرة بانخفاض أسعار النفط نظرًا لعدة أسباب على رأسها الاعتماد شبه الكامل على الايرادات النفطيّة كمكون رئيسي للإيرادات العامة، إضافة إلى محدودية الاحتياطيات المالية للسلطنة مقارنة مع الدول الاخرى المصدرة للنفط، ورغم أنّ التقارير تذكر مملكة البحرين جنبًا إلى جنب مع السلطنة كأكثر دول مجلس التعاون تأثرًا بتراجع أسعار الخام، إلا أنّ هناك ما يشبه "التعهد الضمني" من جانب المملكة العربية السعودية بضمان استقرار الاقتصاد البحريني وعدم ترك مملكة البحرين في أزمة ماليّة.

وفي الوقت الحالي، تبحث السلطنة عن حلول ذاتية تمكّنها من تجاوز الأزمة بأقل قدر من الضرر، وهو ما جعلها تتجنب حتى الآن اللجوء للاستدانة من الخارج رغم المغريات المتمثلة في انخفاض أسعار الفائدة إلى أدنى حد والتصنيف الائتماني العالي للسلطنة وقوة وضعها المالي، ولهذا فإنّ الحكومة حتى الآن عملت على تغطية العجز في الميزانية عبر الاستدانة المحليّة بمقدار 500 مليون ريال، من خلال إصدارين من سندات التنمية هذا العام، لكن تبقى رقعة العجز مرشحة للاتساع مع مرور الأشهر، ففي نهاية مايو الماضي سجل العجز نحو 1.5 مليار ريال، فيما لم تكن أسعار النفط قد تدنت إلى الوضع الحالي. ولا يمكن إغفال أن مقدار العجز الدفتري المتوقع كان مقدر له أن يبلغ 2.5 مليار ريال- بحساب سعر برميل النفط عند 75 دولار- وبالتالي فإنّ استمرار انخفاض سعر النفط يدور حول مستوى 60 دولارًا أو أقل يمكن ترجمته إلى زيادة مقابلة في مقدار العجز بنسبة 20-25%، ومع استمرار عدم القدرة على خفض الإنفاق الحكومي، فمن المرجح أن تصل فجوة العجز في الميزانية العامة للدولة إلى 4 مليارات ريال.

حلول واقعية

وتفتح كل هذه التداعيات الباب أمام البحث عن حلول واقعية تضمن توفير مدخرات للأجيال القادمة، على ألا تكون الاستدانة - رغم أنّها هي أسهل وأقرب الحلول- هي الملجأ من أزمة قد لا تكون مؤقتة.. لذلك من المحتمل أن يكون في وصفة المؤسسات العالمية علاج طويل المدى.. فوفقا لأحدث التقارير الصادرة عن صندوق النقد الدولي حول السلطنة- والذي صدر مؤخرًا في 151 صفحة- فإن الواقع الاقتصادي الحالي لا يمكن أن يستمر دون علاج، إما أن يكون مؤلما على المدى القصير، أو أن يكون أشد قسوة إذا ما اتخذ بعد حين.

ووفقا لملخص التقرير الذي أعدته بعثة صندوق النقد إلى السلطنة ومشاوراتها مع المسؤولين، فإنّ التنبؤات تشير إلى هبوط معدل النمو غير النفطي في السلطنة من 6.5% في عام 2014 إلى 5% في 2015-2016، تمشيا مع خطط الإنفاق الحكومية، ثم إلى 4.5% في 2017-2020، مع ميل ميزان المخاطر في اتجاه التطورات السلبية، ولم يغفل التقرير الإشارة والإشادة ببقاء معدل التضخم المتوسط عند مستوى 1% في عام 2014، نظرًا لانخفاض التضخم في أسعار المواد غير الغذائية، وتوقع أن يظل التضخّم أقل من 3% على المدى المتوسط، تماشيًا مع سعر العملة المربوط بالدولار، واعتدال بيئة التضخّم العالمية، ومرونة عرض العمالة الأجنبية.

ونوه الصندوق إلى أنّ تطورات سوق النفط تمثل أكبر المخاطر على آفاق المدى المتوسط. وقال التقرير: "زيادة انخفاض أسعار النفط من شأنها أن تتسبب في تفاقم الآفاق السلبيّة المتوقعة للمالية العامة والاقتصاد"، متوقعا أنّ يؤدي انخفاض أسعار النفط إلى حدوث عجز في رصيدي المالية العامة والحساب الجاري اعتبارًا من عام 2014/2015. وأشار التقرير إلى زيادة الإنفاق الكلي للسلطنة، ولا سيما في الفترة 2010-2014، الأمر الذي جاء في الأساس لمواجهة المطالب الاجتماعية، وتسبب في وصول سعر النفط المعادل (المحقق لتوازن المالية العامة) إلى 108 دولارات للبرميل في عام 2014، ونظرًا لبيئة أسعار النفط المنخفضة، تزداد أهمية الجهود الجارية لتنويع النشاط الاقتصادي.

ويتوقع صندوق النقد أن يبلغ عجز المالية العامة الكلي 14.8% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2015 وأن يظل هذا العجز في خانة العشرات على المدى المتوسط ما لم يتم إجراء إصلاحات في المالية العامة. ويرى التقرير أنّه بدون المزيد من التصحيح لأوضاع المالية العامة، سوف يتسبب تمويل عجز المالية العامة التراكمي المتوقع بين عامي 2015 و2020 في استنزاف احتياطيات المالية العامة ورفع مستوى الدين إلى نحو 25% من إجمالي الناتج المحلي، أو زيادة الدين الحكومي إلى أكثر من 70% من إجمالي الناتج المحلي بحلول عام 2020 في حالة الاحتفاظ بالاحتياطيات.

المادة الرابعة

وما خرجت به نتائج "مشاورات المادة الرابعة لصندوق النقد" مع المسؤولين في السلطنة، كانت أشبه بميزان الحسابات؛ إذ تبدأ وصفة النتائج بتعبير "سيكون من الحصافة".. وقال التقرير: "إن من الحصافة أن تبكر عمان بعملية تصحيح أوضاع المالية العامة، نظرًا للاحتياطيات الوقائية المحدودة وأسعار النفط التوازنية المرتفعة، ففي ضوء ما يُتوقع من استمرار معظم الانخفاض الذي شهدته أسعار النفط، يمكن أن يؤدي التأخر في بدء إصلاحات المالية العامة متوسطة الأجل إلى تفاقم الآفاق السلبية المتوقعة للمالية العامة مما يحتم إجراء تعديلات أعمق وأقل تدرّجًا في وقت لاحق فيكون تأثيرها أكبر على النمو. واذا عادت أسعار النفط إلى الارتفاع عن مستوياتها المنخفضة الأخيرة، فسيتيح ذلك فرصة لادخار ما يتحقق من إيرادات نفطية استثنائية بما يكفل عدالة توزيع الثروة بين الأجيال.

وأوضح التقرير أنّه لتعزيز استمرارية أوضاع المالية العامة، سيتعين اتخاذ تدابير لاحتواء نمو الإنفاق وزيادة الإيرادات غير النفطية، وعلى جانب الإنفاق؛ يمكن تحقيق وفورات كبيرة إذا أمكن تقليص الزيادة في الوظائف الحكومية لدى جهاز الخدمة المدنية وخدمات الدفاع والحفاظ على ثبات مستوى الزيادة في تعويضات الموظفين الحكوميين بالقيمة الحقيقية؛ وترشيد الإنفاق على بنود الدفاع، وإلغاء الدعم بالتدريج، مع تكميل هذا الإجراء بإقامة شبكة للأمان الاجتماعي وغير ذلك من التدابير المخفِّفة الموجهة للمستحقين.

ويرى الصندوق على الجانب الآخر أنّ هناك إمكانيّة كبيرة لزيادة الإيرادات غير النفطية من خلال توسيع الفئات الضريبية وإعادة النظر في المعدلات والإعفاءات الضريبية للشركات، وتحديد مصادر جديدة للإيرادات مثل بعض الرسوم المخصصة وضريبة للقيمة المضافة وضريبة على العقارات.

وقال التقرير في هذا الصدد: "لا يعتبر فرض ضريبة على تحويلات العاملين إلى الخارج أسلوبا كفوءًا لزيادة الإيرادات؛ لأنّ قدرة هذه الضريبة على توليد الإيرادات ضئيلة للغاية، بينما يمكن أن تؤدي إلى خفض القدرة التنافسية الكليّة للقطاع الخاص العماني، وبدلا من ذلك، يمكن أن يكون تطبيق ضريبة على دخل المواطنين والوافدين وسيلة أقل تشويهًا"، على حد وصف التقرير.

وأضاف التقرير أنّه ينبغي أن ترتكز جهود إرساء الاستمرارية في أوضاع المالية العامة على إصلاحات لتحديث نظام الميزانية العامة الحالي. إذ ينبغي توحيد الميزانية المزدوجة، ووضع إطار متوسط الأجل للميزانية يكتمل مع الإطار متوسط الأجل للاقتصاد الكلي، وتحسين نظام إدارة المالية العامة. ومع زيادة تمرس وحدة السياسات المالية الكلية، ستتوافر الخبرة الفنية المطلوبة في بعض هذه المجالات.

مرونة مصرفيّة

ومع إشادة صندوق النقد بالجهاز المصرفي ووصفه بالمرونة، إلا أنّه رأى أنّ البنك المركزي ينبغي أن يتوخى اليقظة في مراقبة المخاطر الناشئة والتعامل معها. فعليه أن ينظر في اتخاذ تدابير لتعزيز رأس المال الوقائي الذي يوفر للبنوك الأدوات اللازمة لمواجهة أي انخفاضات محتملة أخرى في أسعار النفط، بما في ذلك تعزيز القدرات المتخصصة لدى البنوك في مجال إدارة المخاطر، مشيرًا إلى إمكانية أن تتعرض البنوك لضغوط من ناحية السيولة إذا سُحِبَت الودائع الحكومية على نحو حاد ومفاجئ. ولتجنّب مثل هذا الموقف، يتعين زيادة التنسيق بين البنك المركزي والحكومة، بالإضافة إلى قيام البنك المركزي بضخ سيولة مؤقتة في النظام، إذا دعت الحاجة.

كما لفت التقرير إلى أهميّة تكثيف الجهود لتنويع النشاط الاقتصادي، بغيّة الحد من الاعتماد على النفط وتوفير الوظائف للمواطنين. وجاء بالتقرير "تحتاج عمان إلى تحسين مناخ الأعمال عن طريق إزالة العقبات التي تعوق البنية التحتيّة المادية والقانونية والبنية التحتية اللازمة لممارسة الأعمال. وبالرغم من أنّ الحكومة تبذل جهدًا جادًا لتطوير قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة، فسيكون من المفيد زيادة التنسيق بين مختلف الجهات المعنية. وستؤدي إقامة أسواق للدين المحلي إلى دعم عملية تنويع الاقتصاد والحد من تركز المخاطر المصاحبة لأعمال البنوك".

وكانت توقعات البنك المركزي العماني للاقتصاد المحلي في 2015 متوافقة إلى حد كبير مع توقعات صندوق النقد الدولي لنسب النمو خلال العام الحالي حيث جاء بالتقرير السنوي للبنك "إن توقعات الميزانية العامة للدولة لعام 2015م، تشير إلى أنّ اقتصاد السلطنة سينمو بنحو 5% بالأسعار الثابتة خلال عام 2015م، مدعوماً بالأنشطة غير النفطية التي يُتوقع أن تنمو بنسبة 5.5%".

لكن تقرير البنك المركزي كان أكثر تفاؤلا باستمرار الحكومة في الانفاق على استكمال مشاريع البنية الأساسية مثل المطارات والموانئ والطرق وتطوير المناطق الصناعية وغيرها، وهو ما اعتبره البنك في قراءته لمستقبل الاقتصاد المحلي خلال العام الحالي بمثابة محركات للنمو الاقتصادي، مضيفا إن الاقتصاد العماني سيتمكن من تخطي التحدي الحالي الناجم عن انخفاض أسعار النفط نظراً للمرونة التي يتحلى بها الاقتصاد من جهة وتبني السياسات المالية والنقدية السليمة من جهة ثانية.

تفادي التباطؤ

وأوضح تقرير "المركزي" أنّ الهدف الرئيسي للحكومة والبنك المركزي العماني في ظل الوضع الراهن هو تجنب أي تباطؤ في عملية النمو، وكذلك المضي قُدماً في السياسات التي تهدف إلى تعزيز التنويع الاقتصادي، وانتهى البنك برأي واضح للآفاق المستقبلية للاقتصاد العماني قائلا إنّها "واعدة بشكل عام آخذين بعين الاعتبار وتيرة التنويع الاقتصادي والإنفاق الكبير الذي تخطط له الحكومة والدور المؤمل من القطاع الخاص في عملية التنمية. وبناءً على التجارب السابقة يتبين أن السلطنة تتمتع بمرونة ومتانة متأصلة فيها، الأمر الذي ّ من شأنه أن يمكنها من التعامل مع التراجع في أسعار النفط والحفاظ على إستمرار عملية النمو.

ويبقى القول.. أيًا كانت آراء المحللين والمتخصصين والمسؤولين فإنّ هناك عاملا أهم يتمثل في مدى التفهم لوضع السلطنة الاقتصادي ومدى تقبل تنفيذ خطط لمواجهة المخاطر المحتملة، ويظل الدور الرئيس بيد المواطن الذي سينفذ هذه الخطط ويتحمل تبعات تنفيذها أو ... تبعات عدم تنفيذها.

تعليق عبر الفيس بوك