الستارة

ناصر محمد

دائما ما يسرد التاريخ الأحداث الكبرى على صفحاته لأنها، حسب رأي رجالاته، الأحداث الأكثر قيمة وأهمية. في حين ترمي الذاكرة الإنسانية، للسبب ذاته، تلك التفاصيل الصغيرة التي توازي الأحداث الكبرى إلى قاع النسيان، أو أنها تكتب في صفحات التاريخ ولكن بلا انتباه لها لأنها تعتبر عوالق غير مؤثرة، أو أنها مزحة جانبية أمام تراجيديا العالم التي ترى من تلك المزحة اضطرابا وقلّة ذوق! فكما أنّ نابليون هو الإمبراطور الفرنسي الأشهر في التاريخ، فما هي الفائدة في تعظيم أهمية خوفه من القطط أو استحضار قصر قامته!!

من هنا ينطلق الروائي التشيكي "ميلان كونديرا" في كتابه "الستارة" المكون من سبعة أجزاء في سبر غور التفاصيل غير المهمة وإعادة الاعتبار لها من زاوية الفن، وبالتحديد فن الرواية. فالرواية عند كونديرا تحولت إلى تاريخ عندما بدأت بمعارضته، ويحقّب كونديرا ذلك بظهور رواية سرفانتس "دون كيخوته" التي قلبت المعايير والقيم الإنسانية وذلك بالالتفات إلى أحداث عرضية لها أيضا أهميتها ودورها في صناعة الحدث. يقول كونديرا: أراد المسكين ألونزو كيخادا الارتقاء بنفسه إلى الشخصية الاسطورية لفارس متجول. في كل التاريخ الأدبي، نجح سرفانتس في عكس ذلك، أرسل شخصية أسطورية إلى أسفل، إلى عالم النثر. النثر، هذه الكلمة لا تعني فقط لغة غير منظومة شعرا، بل تعني أيضا السمة الواقعية واليومية والمادية للحياة. والقول بأن الرواية هي فن النثر، ليس إذاً تحصيل حاصل، فهذه الكلمة تحدد المعنى العميق لهذا الفن. لم تخطر ببال هوميروس فكرة أن يتساءل إن احتفظ أخيل وأجاكس بعد معاركهما العديدة بكل أسنانهما. على العكس من ذلك، الأسنان بالنسبة لدون كيخوته وسانشو هي هم دائم، الأسنان التي تؤلم، الأسنان التي تتناقص.

يذهب كونديرا بعد ذلك لاستكشاف بنية الرواية المبدعة، فالمألوف ليس من ضمن معجم الرواية الحقيقية، والقصة المتكونة من أحداث يربط بينها سبب هي تكرار سيء لعجرفة الأنا. تبدأ الرواية عند كونديرا عند تمزق ستارة الواقع،. فالرواية هي ملك الراوي المتحرر من قيود التاريخ وقوانينه، الرواية هي الغباء أيضا والذكاء، الحماقة والهزل، هي القارة المنسية من الذاكرة التي تعيد استحضارها من زاوية غير مفخمة ومتواضعة.

لاتبحث الرواية عند كونديرا عن المجد والعظمة، بل تحدده في حالاته الإنسانية، تلك الحالات التي تخدعه نحو المجد، مثل الجدية والوقار والنزاهة التي يتخفى تحتها الإنسان. ولذلك تمزق ستارة هذه الأوهام عن طريق الفكاهة والهزل، بإرجاع الإنسان إلى أبسط حقائقه وأكثرها تفاهة مبينا كونديرا في ذلك سلطة التفاهة كنقيض لسلطة المجد. وفي ظل هذا التمزيق تبدأ أحداث جديدة تحكمها الصدفة، وشخصيات هائمة في عالمها الخاص دون فرض لأناها على الآخرين.

يتناول كونديرا أيضا في كتابه "الستارة" تأثير الأمم على الرواية سواء على مستوى الإقليم الكبير أو الصغير، فالكاتب الغربي مثلا يكتب في سياق أمته الكبيرة التي تضلّله أحيانا عن الإنسان في حيزه الصغير. بينما الأمم الصغيرة ذات التاريخ المنسي فهي تخلق تاريخها من زاوية أكثر دقة وأكثر خيالا، وهذا ربما ما يبرره كونديرا اتجاه الكثير من كتاب أوروبا الشرقية مثل "كافكا" إلى التكثيف الكبير للحدث الصغير وجعله حدثا أكبر، فهو في حالة لا توازنه يحقق شرط الرواية الحديثة التي تبدأ أحداثها الإبداعية عندما تتوقف عن الاهتمام بالأحداث الكبرى. فالأحداث التي تبرز في السياق الكبير هي التي تهتم بالعدالة والحرية، بينما أحداث الأقاليم الصغيرة تركز كثيرا على أزمة الحرية والعدالة في تحققها! فالبيروقراطية والمادية كأشكال متحققة للحداثة دفعت الراوي إلى تضخيم مظاهر هيمنتها على حرية الإنسان، فهو مراقب من كل مؤسسة ومرفق عام وحتى في بيته عبر وسائل التواصل الحديثة، والرواية تبرز الواقع عبر مزحة سوداء وعدم جدية.

تعليق عبر الفيس بوك