قافلة الحكمة العمانية تسير

صالح البلوشي

اكتسبت الزيارة الرسمية الاستثنائية التي قام بها وزير الخارجية السوري وليد المعلم إلى السلطنة مؤخرا الكثير من الدلالات السياسية المرتبطة بالأزمة السورية التي مضى عليها خمس سنوات كاملة، خاصة وأنها الزيارة الأولى التي يقوم بها الوزير المعلم إلى عاصمة عربية منذ أربع سنوات، وكعادة بعض الأشقاء في بعض الصحف وبرامج التواصل الاجتماعي المختلفة خاصة (تويتر)، لم يتركوا الزيارة تمرّ دون إثارة ضجة حولها، واستغلال هذا الحدث السياسي من أجل إطلاق دعاوى باطلة لا تقوم على أساس، وكأن السلطنة كان من المفترض منها أن تستأذن من هذه العاصمة أو تلك حتى تستطيع استقبال الوزير السوري والحوار معه، أو أي مسؤول عربي أو دولي آخر، ويبدو أن هؤلاء -ومنهم للأسف سياسيون وأساتذة جامعات- لا يفقهون حتى الآن السياسة العمانية التي تقوم على مبدأ رفض الحروب وضرورة حل النزاعات بالطرق السلمية، ولذلك كان للسلطنة مبدأ ثابت منذ بدء الأزمة السورية وحتى اليوم، وهو ضرورة إيجاد حل سياسي للأزمة يحفظ الحقوق المشروعة للشعب السوري ووحدة تراب هذا الوطن العربي، وهذا بطبيعة الحال لا يتحقق إلا بالحوار بين أطراف النزاع هناك، التي تتمثل في الحكومة السورية والمعارضة السياسية؛ إذ إن سنوات الصراع الخمس الماضية أثبتت عجز أطراف النزاع المختلفة عن حسم المعركة عسكريًا، خاصة بعد أن دخلت العصابات والمنظمات الإرهابية في دائرة الصراع، وتمكنت بفضل دعم بعض الجهات الإقليمية والدولية من احتلال مساحات شاسعة من سوريا، وأبرز هذه الجماعات بطبيعة الحال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وجبهة النصرة (الفرع السوري من القاعدة). وإذا كنا نعذر أطفال تويتر ومراهقي التواصل الاجتماعي بالهجوم على السلطنة وقيادتها التاريخية؛ لأنهم -وليس كلهم- لا يعرفون ألف باء السياسة، فإننا لا نعذر أبدًا شخصياتٍ سياسية وأكاديمية شاركت في الحملة، بل وتزعمتها، وأطلقت دعاوى أقل ما يمكن أن يقال عنها: أنها ساذجة، ولا علاقة لها بالقراءة السياسية للأحداث والمواقف.

من يقرأ التاريخ جيدًا - لمن يفقه دروس التاريخ- يعرف أن السلطنة لم تعتدِ في تاريخها على أية دولة أخرى، أو شعب آخر، ولم تتورط في دعم أي نظام أو حزب أو تنظيم مسلح تورط في ممارسة القتل والإرهاب بحق الأبرياء، وفي مجال العلاقات السياسية لم تقطع علاقاتها مع أية دولة، بل كانت تعرض وساطتها في قضايا إقليمية ودولية كثيرة ونجحت في أغلبها، ولعل آخرها كان الاتفاق النووي التاريخي بين إيران ومجموعة 5+1، ولعلي لست بحاجة إلى تذكير القارئ بمواقف السلطنة في كثير من القضايا العربية؛ فالمواطن العماني والعربي يعرفها جيدا، ولكني بمناسبة الضجة التي أثارها البعض حول زيارة وزير الخارجية السوري إلى السلطنة أجد نفسي مضطرا إلى إعادة ذاكرة القارئ إلى الوراء قليلا، وتحديدا عام 1990، بعد الغزو العراقي للكويت، فقد استقبلت السلطنة وزير الخارجية العراقي - وقتذاك- طارق عزيز من أجل إيجاد حل عربي للغزو، ودعوة العراق للانسحاب من الكويت سلميا؛ ولكن بعد فشل جميع الوساطات العربية والدولية، وجدت السلطنة نفسها مضطرة إلى المشاركة العسكرية في عملية تحرير الكويت سنة 1991، مما يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن السلطنة طوال السنوات الخمس والأربعين الماضية، مارست دورا فعالا وإيجابيا في دعم القضايا العربية والدولية؛ ولكن المشكلة هي في العقول الضيقة التي لا تفكر إلا في إطار تفكيرها الطائفي أو القومي الضيق.

لقد أثبتت تجارب العراق وليبيا وسوريا أنّ الحرية والديمقراطية لا يمكن أن تأتي على ظهور الدبابات الأمريكية، أوالطائرات الفرنسية، أو الأحزمة الناسفة والمفخخات الداعشية والإرهابية، أو الحملات الجوية، فهذه الطرق البشعة والقاتلة لا يمكن أن تجعل شعوب المنطقة ديمقراطيين أو تنويريين، بل لقد أثبتت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الغرب وبعض الدول العربية أن دعمهم لإسقاط النظامين في العراق وليبيا، ومحاولتهم المستميتة منذ خمس سنوات لإسقاط الحكومة السورية، لا يهدف إلى نشر الحرية والديمقراطية، أو مساعدة شعوب هذه الدول على التخلص من أنظمتها "الاستبدادية"؛ وإنما تفتيت المنطقة، وإحياء العصبيات الطائفية والقومية فيها، وتقسيمها إلى دويلات متحاربة ومتنافرة، ونهب ثرواتها الطبيعية عن طريق عملائها ومرتزقتها.

إن السلطنة دولة تؤمن بالسلام بين الدول، ولذلك فهي ترحب باستقبال كل شخص يؤمن بالسلام ويعمل من أجل هذا المبدأ الحضاري، وإذا كان التاريخ لم يحدثنا أن السلطنة اعتدت على دولة ما أو شاركت في ذلك؛ فإنه سيحدث الأجيال القادمة أيضاً أن السلطنة أسهمت اليوم في إرساء السلام العالمي وبشكل فعّال في عالم يموج بالصراعات الطائفية والعرقية.

تعليق عبر الفيس بوك