الموت أعمى

أسماء القطيبي

قبل أيام غادرنا الشاعر حَمَد الخروصي، الرجل الذي التقاه البعض شخصيا، والتقاه البعض -الأكثر- بين السطور، ووجد البعض أنفسهم فيها. ولأنَّ الموت هو الموت، تتمنى لو أن الخبر شائعة، لو أنَّه ليس حمد الذي تعرفه، الذي شاركته هموم الوطن، وحب الأرض. ولأن الموت هو الموت أيضا، فإنه يفرض سطوته بتأكيد الخبر. ليرحل الخروصي محملا بدعوات الرحمة والمغفرة، والسلوان لأحبائه وحبره.

لم يكُن حَمد الخروصي أوَّل الراحلين، ولن يكون آخرهم. لكنَّ للموت طعمًا مختلفَ المرارة في كل مرة. يُفجعك كيف أنه لا يأبه للأعمار، ولا يفرِّق بين من يتمناه وآخر يسافر ليستزيد من الحياة أكثر. وأكاد أجزم بأنَّ الموت يؤذي الأحياء أكثر ممَّا يفعل مع الراحلين، أولئك الذين يخلفهم الميت تركة لمتاعب الحياة وآلامها. الأحياء مهما حاولوا لا يستطيعون الانفصال عن الماضي؛ ذلك الذي كان الراحل حاضرًا فيه، وكلما كان حضوره كبيرًا كانت رائحة الموت أكثر انتشارا وتغلغلا.

يُذهلك الفراغ الذي يحدثه موت أحدهم، يدلك ذلك على كثافة حضوره في تفاصيل الأحاديث، وفي كل مناسبة تقام. يجعلك تندم على الأوقات التي لم تُطِل فيها الحديث معه، عن التعبير القاصر عن الحب العميق، عن أشياء كثيرة تعلم أن لا ذنب لك فيها، ولكن لا حيلة أخرى للتخلص من هذا المأزق سوى لوم نفسك.

في كلِّ عيد تحضر جارتنا العجوز للسلام، وبعكس الجميع لا تهنئ أمي ولا تستقبلها أمي بالتبريكات، فقط تبكيان، وكأنهما أعدتا سلفا هذا المشهد الذي يبدو غريبا وسط مظاهر العيد الأخرى، تبكيان الراحلين الذين لا يكتمل الفرح دونهم، تستحضران الآباء والأمهات الذين لا يكف أحدنا أن يكون صغيرا بينهما. تستحضران الجيران الذين تواروا تحت الثرى، ووجوها كثير باقية عابرة، ولا يهم من طغى في الذاكرة أكثر حينها، فهما تبكيان الموت، والغياب.

وللموت هيبة تكسب الأشياء المتعلقة بصاحبها هالة من القداسة، تُصبح للملابس في خزانته رائحة لعطر لم تشمها من قبل، يصير تصفح صفحته الشخصية في تويتر أو الفيس بوك تحرشا بالذكريات، تصير الكلمات إشارات، وتكتشف في الصور ما يشبه الشعر. كم كان مختلفا! كم أن الحياة تفضح تشابه الأحياء!

حين يرحل الأقارب والأصدقاء، مُتوالين -الواحد تلو الآخر- دون وداع تتحسَّس نبضك، تقف ساعة لتتساءل متى يحين دورك؟ وماذا عن الأحلام المؤجلة، والعطاءات الموعودة؟ تقول إنه ليس الوقت المناسب، وكأني أرى الموت يقف بعيدا يبتسم ابتسامة ساخرة، متى كان للموت وقت مناسب؟ فالموت مثل الحب، أعمى حين ينتقي من يريد، لا يخضع بساديته لأي قوانين. هو يقرر فقط أنه حان دورك، وأن على نفسك أن تذوقه. وفي الحقيقة حتى هذا التشبيه القرآني للموت كشراب تستطيع تذوقه يحيرني، هل هو سهل كشربة ماء؟ هل هو لاذع بما يكفي لتعبر بين عالمين؟

حين كُنا صغارا كان مَوْت أحد الأقرباء أو الجيران يعني الزهد في مظاهر الحياة، وعدم تشغيل التليفزيون، وعدم الضحك بصوت عال، وعدم إقامة حفلات الأعراس إلا في جو خجول من الفرح، وكأنَّ الميت يُراقبنا فنستحي أنْ لا نهيب غيابه. كان يضايقني كثيرا أني لا أستطيع مشاهدة الرسوم المتحركة لأن جارنا الكبير في السن مثلا تُوفي بعد غيبوبة طويلة، أقول لأمي إنه لن يعود، وأن لا أحد من أقربائه سيأتي ليعاقبني على مشاهدة التليفزيون، كانت ترمقني بنظرة حادة لا نقاش بعدها. هو الموت، لابد أن نستقبله كضيف ثقيل. أمَّا الآن، ولعلَّه لا يعني غالبنا من أمره سوى تعزية أهل الميت، كواجب إنساني نبيل، نخرج من العزاء لنشغل الراديو ونستمع لما لذ وطاب من الأغاني التي تمجِّد الحب والحياة. لعل البعض يريد أن يقول للموت إننا تعبنا وأن في القلب راحلين كُثر، وهذا الموت كثير حتى إننا لا نستطيع أن نلتقط أنفاسنا من فجيعة لأخرى، ولعل البعض لا يريد التذكر ببساطة؛ فطالما أنَّ الموت أعمى، فليأتِ متى شاء وليرحل متى شاء.

أيُّها الموت الذي يحيط بيباسنا: نصيبك من الراحلين أجسادهم فقط، إنهم لا يغادرون قط.

تعليق عبر الفيس بوك