التواصي بالحق والصبر من الضرورات التي تشدد عليها سورة العصر لتحصين الأمة

محمد عبد العزيز

اشتملت سورة العصر ذات الكلمات المعدودة على ضوابط ومعانٍ كثيرة قدمنا لها في حلقة الأمس، واليوم نواصل استعراض صفات الرابحين الناجين من الخسران.

ونلمس الصفة الثالثة في قوله تعالى : { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ }. وقال الإمام الطبري : وقوله:( وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ) يقول: وأوصى بعضهم بعضا بلزوم العمل بما أنزل الله في كتابه، من أمره، واجتناب ما نهى عنه فيه.

قال الإمام الفخر : اعلم أنه تعالى لما بين في أهل الاستثناء أنهم بإيمانهم وعملهم الصالح خرجوا عن أنّ يكونوا في خسر وصاروا أرباب السعادة من حيث إنّهم تمسكوا بما يؤديهم إلى الفوز بالثواب والنجاة من العقاب وصفهم بعد ذلك بأنّهم قد صاروا لشدة محبتهم للطاعة لا يقتصرون على ما يخصهم بل يوصون غيرهم بمثل طريقتهم ليكونوا أيضاً سبباً لطاعات الغير كما ينبغي أن يكون عليه أهل الدين .

وقال الإمام أبو السعود: بيان لتكميلهم لغيرهم أي وصى بعضهم بعضا بالأمر الثابت الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا زوال في الدارين لمحاسن آثاره وهو الخير كله من الإيمان بالله عز و جل واتباع كتبه ورسله في كل عقد وعمل .

فإن قيل : لما عطف التواصي بالحق والتواصي بالصبر على العمل الصالح وهو منه؟.

قال ابن عاشور: وعُطف على عَمل الصالحات التواصي بالحق والتواصي بالصبر وإن كان ذلك من عمل الصالحات، عَطْف الخاص على العام للاهتمام به لأنه قد يُغفل عنه، يُظن أن العمل الصالح هو ما أثرُه عمل المرء في خاصته، فوقع التنبيه على أن من العمل المأمور به إرشادَ المسلم غيره ودعوتَه إلى الحق.

أما الصفة الرابعة، فنلمسها في قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . والصَّبر فى اللغة: الحَبْس والكفّ فى ضيق. والصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع أو عما يقتضيان حبسها عنه . وقال الفيروزابادي: الصَّبر: حبس النَّفس عن الجزع والسّخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش.

وقوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} أي وصى بعضهم بعضا بالصبر على طاعة الله، وبالصبر عن معاصيه، وبالصبر على الأذى الذي قد يلحقهم حال تمسكهم بالحق وأمرهم الناس به، وبالصبرعلى الأقدار التي تسؤهم.

وقال الألوسي: وتواصوا بالصبر عن المعاصي التي تشتاق إليها النفس بحكم الجبلة البشرية وعلى الطاعات التي يشق عليها أداؤها وعلى ما يبتلي الله تعالى به عادة من المصائب والصبر المذكور داخل في الحق وذكر بعده مع إعادة الجار والفعل المتعلق هو لإبراز كمال العناية به ويجوز أن يكون الأول عبارة رتبة العبادة التي هي فعل ما يرضي الله تعالى والثاني عبارة رتبة العبودية التي هي الرضا بما فعل الله تعالى فإن المراد بالصبر ليس مجرد حبس النفس عما تتوق إليه من فعل أو ترك بل هو تلقي ما ورد منه عزّ وجلّ بالجميل والرضا به باطنًا وظاهراً.

وقال الإمام الفخر : كرر التواصي ليضمن الأول الدعاء إلى الله، والثاني الثبات عليه، والأول الأمر بالمعروف والثاني النهي عن المنكر، ومنه قوله: {وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِر} . وقال الطاهر بن عاشور: اشتمل قوله تعالى: (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) على إقامة المصالح الدينية كلها، فالعقائد الإِسلامية والأخلاق الدينية مندرجة في الحق، والأعمال الصالحة وتجنب السيئات مندرجة في الصبر.

والتخلق بالصبر ملاك فضائل الأخلاق كلها فإن الارتياض بالأخلاق الحميدة لا يخلو من حمل المرء نفسه على مخالفة شهوات كثيرة، ففي مخالفتها تعب يقتضي الصبرَ عليه حتى تصير مكارم الأخلاق ملكة لمن هو راض نفسه عليها وكذلك الأعمال الصالحة كلها لا تخلو من إكراه النفس على ترك ما تميل إليه. وفي الحديث: (حُفَّت الجنة بالمكارِهِ وحُفّت النار بالشهوات) . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( الصبر مطية لا تكبو ).

وإذا تفكرنا في هذه الآية نجد أنها تبين بوضوح صفة الأمة المسلمة .

وقال الشيخ سيد قطب : أما التواصي بالحق والتواصي بالصبر فتبرز من خلالها صورة الأمة المسلمة أو الجماعة المسلمة ذات الكيان الخاص ، والرابطة المميزة ، والوجهة الموحدة . الجماعة التي تشعر بكيانها كما تشعر بواجبها. والتي تعرف حقيقة ما هي مقدمة عليه من الإيمان والعمل الصالح ، الذي يشمل فيما يشمل قيادة البشرية في طريق الإيمان والعمل الصالح؛ فتتواصى فيما بينها بما يعينها على النهوض بالأمانة الكبرى .

ومن خلال لفظ التواصي ومعناه وطبيعته وحقيقته تبرز صورة الأمة أو الجماعة المتضامة المتضامنة . الأمة الخيرة . الواعية . القيمة في الأرض على الحق والعدل والخير . . وهي أعلى وأنصع صورة للأمة المختارة . . وهكذا يريد الإسلام أمة الإسلام . . هكذا يريدها أمة خيرة قوية واعية قائمة على حراسة الحق والخير ، متواصية بالحق والصبر في مودة وتعاون وتآخ تنضح بها كلمة التواصي في القرآن .

والتواصي بالحق ضرورة . فالنهوض بالحق عسير . والمعوقات عن الحق كثيرة : هوى النفس ، ومنطق المصلحة ، وتصورات البيئة . وطغيان الطغاة ، وظلم الظلمة ، وجور الجائرين . . والتواصي تذكير وتشجيع وإشعار بالقربى في الهدف والغاية ، والأخوة في العبء والأمانة . فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات الفردية ، إذ تتفاعل معاً فتتضاعف . تتضاعف بإحساس كل حارس للحق أن معه غيره يوصيه ويشجعه ويقف معه ويحبه ولا يخذله . . وهذا الدين وهو الحق لا يقوم إلا في حراسة جماعة متواصية متكافلة متضامنة على هذا المثال .

والتواصي بالصبر كذلك ضرورة . فالقيام على الإيمان والعمل الصالح ، وحراسة الحق والعدل ، من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة . ولا بد من الصبر . لا بد من الصبر على جهاد النفس ، وجهاد الغير . والصبر على الأذى والمشقة . والصبر على تبجح الباطل وتنفج الشر . والصبر على طول الطريق وبطء المراحل، وانطماس المعالم ، وبعد النهاية! والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة ، بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف ، ووحدة المتجه ، وتساند الجميع ، وتزودهم بالحب والعزم والإصرار، إلى آخر ما يثيره من معاني الجماعة التي لا تعيش حقيقة الإسلام إلا في جوها ، ولا تبرز إلا من خلالها . . وإلا فهو الخسران والضياع.

تعليق عبر الفيس بوك