العبادات شرعت لتقويم سلوك المؤمن وامتثاله ظاهرا وباطنا لأمر الله

خالد بن سعيد الريامي

عندما يُؤدِّي المسلم العبادات التي افترضها الله عليه على اختلافها، إنما يُؤديها ليتقرَّب بها إلى الله الذي خلقه فسوَّاه وعدله، والله تعالى لم يشرع هذه العبادات لمجرد أن يؤدي الواحد منا تلك الحركات والسكنات، وإنما ليستقيم سلوك المؤمن ويمتثل ظاهرا وباطنا لأمر الله، ويتطلب الأمر أن تؤثر هذه العبادات على هذا السلوك.

تستوقفنا كذلك العديد من الآيات والأحاديث النبوية التي ما إنْ تدبرناها إلا وتجعلنا نسأل أنفسنا، ولكن كيف؟

يقول الله تعالى: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون".. نعم إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا، ولكنَّ السؤال الذي يطرح نفسه: كيف أصل إلى هذا الشعور؟

تعالوا بنا إلى عبادة أخرى وهي الصلاة، وما أدراك ما الصلاة عمود الدين وركنه الركين، لقد امتدح الله تعالى عباده المؤمنين انهم في صلاتهم خاشعون؛ حيث قال عزَّ وجلَّ: "قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون"، كما ذكر الله تعالى أثر الصلاة بقوله: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"، ولكنَّ السؤال: لماذا لا نحس بالخشوع ولا تزجرنا الصلاة ولا تنهانا عن الفحشاء والمنكر؟ فما هو العنصر المفقود في صلاتنا فجعلها لا تتصف بهذه الصفات العظيمة؟

وهذا الوصف ينطبق على بقية العبادات، من حج وصوم وزكاة وغيرها من العبادات، فالسؤال لماذا؟ وكيف؟

قد يُؤدِّي الواحد منا الصلاة دون خشوع، وقد يقرأ القرآن دون تدبر وتأثر، وقد يؤدي الحجة تلو الحجة والعمرة تلو العمرة دون أن يكون للنفس والتقوى رصيدا منها، وقد يصوم بعضنا رمضان ويضيف إليه شيئا من النوافل دون أن يكون ثم ثمرة، وقد يؤدي الكثير من الطاعات والقربات؛ ولكن تبقى النفس عطشى، ثم تأتي الأسئلة عن السبب وراء ذلك، أسئلة تطرح من عدد ليس قليلا من الناس، وهذه الأسئلة وإن لم يطرحها البعض صراحة إلا أن واقع الحال ينبئ عنها، لماذ لا تؤثر العبادات في نفسي وسلوكي؟

إنَّ الموضوع الذي نود مناقشته في هذا المقال هو إجابة عن السؤال التالي: ما هو السر الذي به تؤثر العبادات على نفس الإنسان وسلوكه؟

يُعجبني هنا -ولغرض تقريب الصورة- أنْ أضربَ مثالا، إننا الآن في فترة الصيف، ويشتد الحر في هذه البلاد ونستخدم أجهزة التكييف لتبريد وتلطيف الجو، إلا أنَّ مشكلة قد تحدث في بعض البيوت وهو قلة كفاءة أجهزة التبريد بحيث لا تقوم بتبريد الجو بشكل جيد، والبعض منها لا يبرد رأسا، قد تحدث هذه المشكلة مع أن أجهزة تكييف جديدة ولا تحتاج إلى صيانة، لماذا؟

... إنَّ المشكلة هنا، وفي هذه الحالة، تكمُن في ضعف التيار الكهربائي الذي يغذي جهاز التكييف؛ كون أجهزة التكييف تحتاج إلى قدر معين من التيار الكهربائي لتتمكن بدورها من القيام بمهمتها وبدونها لا تستطيع أن تقوم بالدور الذي جعلت من أجله، يحدث هذا ولو كانت هذه الأجهزة من افضل الأنواع و(الماركات) إن صح التعبير؟

قد يستغرب البعض من هذا المثال وعلاقته بالموضوع الذي نحن بصدد مناقشته، ولكن إن عرف السبب بطل العجب؛ فالعبادات على اختلافها قد شُرعت من لدن حكيم خبير، حكيم في تشريعه، وخبير بما يصلح للعباد ويقوِّم سلوكهم، وكل عبادة تأخذ بجانب من جوانب النفس الإنسانية لتصلحه وتقومها على نهج الله تعالى؛ فهي إذا من أكمل الأدوات التي تصلح وتؤثر على سلوك الإنسان، إلا أننا لن نرجو أن تؤثر في سلوكنا ما لم تتزود بالطاقة اللازمة لتكون فعالة، فهي بدون طاقة كالجهاز المطفأ لا فائدة منه، إن مصدر الطاقة قد ذكره الله لنا في كتابه العزيز في مواضع شتى وإن غفل عنه أكثر الناس أو تجاوزوه، وبعد ذلك أخذوا في الشكوى، إنها العبادة المنسية إنها عبادة التفكر في خلق الله تعالى.

... إنَّ سلوك الإنسان -سواءً كان ظاهرا أم باطنا كي يتَّصف بالفاعلية والحياة- لا بد له من طاقة تحركه، وبدونها يصبح السلوك باردا أيًّا كان ذلك السلوك، وهذه الطاقة هي العاطفة؛ فمثلا إذا قال لك أحدهم "تعال بنا نزور فلانًا"؛ وهو شخص لا تعرفه، أو أنك تعرفه ولكن لا تربطك به صلة من محبة أو خوف، فإنك لن تذهب، أو قد تذهب ولكن دون نشاط، أو تذهب لإرضاء من قال لك.. لماذا؟ لأن سلوكك يفتقد إلى العاطفة.

إنَّ العبادات تحتاج إلى هذه الطاقة، تحتاج إلى العاطفة حتى تقوم بدورها، وما من عبادة تزود العبادات بطاقة العاطفة مثل التفكر والتأمل في خلق الله تعالى، إنه السر الذي جهله كثير من الناس أو غفلوا عنه، إنه العنصر الذي إذا نقص من العبادة تركها جثة هامدة لا حراك لها ولا أثر، إنه روح العبادة الذي تحيى به وتؤثر، إننا نتقرب إلى الله تعالى بصنوف العبادات والطاعات، فنحن نصلي لله ونقف بين يديه خمس مرات على الأقل في اليوم والليلة، ونحن نقرأ القرآن الكريم الذي هو كتاب الله تعالى في صلاتنا وخارجها، كما أننا ننفق في سبيل الله في شتى وجوه الخير، ونتزلَّف له بأداء الحج والعمرة فنعيش في المشاعر العظام، فلنا أن نتخيل أننا نؤدي هذه العبادات دون أن نعرف الله حق المعرفة، فكيف سنؤديها؟

لقد ذكر الله تعالى وامتدح عددا من العواطف التي من شأنها أن تجعل المؤمن مؤمنا حقا وعارفا بالله تعالى فتحيى بها العبادات والنفوس؛ فمن ذلك الخوف من الله تعالى ولا يكون ذلك إلا بالتفكر الدائم في خلق الله العظيم لنعرف حقا أن الله عظيم فنحس به؛ فالمولى -عزَّ وجلَّ- يقول: "إنَّ الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يومنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون"، فأول صفة يذكرها سبحانه وتعالى الخشية منه سبحانه، كما أن الله تعالى ذكر الإحساس بنعمة ومنة الله على العباد ليحس الإنسان بنعمة الله تعالى؛ فيحبه ويحس بفضله عليه، فكم هي النعم المحيطة بنا والتي لا ينقصنا إلا التفكر فيها وتدبرها لتكون لنا علامة على حقيقة الله تعالى! إنَّ أيَّ نعمة ينعم الله بها عليك لها وظيفتان؛ الأولى: الاستفادة منها؛ فالمأكول ليستقيم به البدن، والمشروب ليرتوي يه الجسد، والدواء ليشفى به من الداء العضال، ولكن هذه وظيفة دنيا بجانب الوظيفة الأساسية للنعمة؛ فالوظيفة الأساسية للنعمة أن تتفكر في هذه النعمة لتهديك إلى من خلقها وقدرها ثم جعلها مستساغة لك قابلة أن تستفيد منها "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها"، ومن ذلك الإحساس بقدرة الله تعالى وذلك بالتفكر في تصرف الله في هذا الكون وتدبير شأنه وإكرام العباد وإهانتهم على حسب مشيئته تعالى ومن ذلك قوله تعالى: "فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهون يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وكذلك تخرجون".

إذا تعالوا بنا نتفكر في خلق الله ساعة حتى ننال حظنا من معرفة الله تعالى، تعالوا بنا نبث الحياة في العبادات التي نتقرب بها إلى الله تعالى، لا تشتكوا من قساوة القلوب ولكن بادروا إلى إحيائها بما تحيا به، وكما يقال: لا تلعن الظلام ولكن أوقد شمعة، إنه التفكر في خلق الله، ما أمتعه من وقت أن يجلس الواحد منا خاليا مع نفسه ليجول ببصره وفكره في هذا الكون بدأ من نفسه فيتفكر فيها كيف خلقها الله تعالى وصورها وقدرها، وركبها بشكل يضمن لها الاستفادة مما في الأرض من رزق، عندها وعندها فقط أخي المسلم ستحس بطعم العبادات، ستحس بحلاوة الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى ومناجاته، وستتضح لك المعاني الحقيقية لكثير من آيات الله تعالى والتي كانت في الأمس القريب غائبة أو غامضة عنك، عندها سترى يد الله تعمل فيك وفي جنبات هذا الكون المترامي الأطراف.

تعليق عبر الفيس بوك