لأجل الحقيقة الباقية

سلمى اللواتية

"نحن نناقش الأفكار لا الأشخاص، ونتحاور مع العنوان المعروض بحيادية لأنّ الموضوعيّة تقتضي ذلك "الحقيقة إنها الخدعة التي قد تنطلي من أنفسنا على أنفسنا ظانين بذلك أننا قد وصلنا لتلك المرتبة الرفيعة من أبعاد الشخصية الناضجة، ولست أدري إن كنت أستخدم المصطلح الذي يرضي الأنا بداخلي أو بداخل القارئ الكريم (الشخصية الناضجة)،إذ أنني أحاول أن أنظر للموضوع تارة من داخل دوامة الصراع النفسي الذي يمر به الإنسان حين تمسه كهرباء النقد، وتارة أخرج من تلك الدوامة إلى خارجها حيث ترى الضحايا يتقلبون في وجع الدوائر اللامتناهية للدوامة وتتضح لك معالم أفكارهم ومسارب الإلكترونات العقلية والنفسية التي تتقاتل في سبيل إرضاء الأنا؛ لتقف على شخصيات غربية وأخرى أكثر غرابة، وقلة نادرة تتمنى أن تكون منهم حتى تصف نفسك بـ (الشخصية الناضجة)، هذا الوصف الذي يستحثه حب الكمال الذي خُلقنا من أجل الوصول إلى مراتبه اللامحدودة، والذي يقف حجر عثرة نحو تقبلنا النقد الموجه لانتماءاتنا المختلفة، بدءا بذواتنا ومرورا بعائلاتنا إلى مجموعاتنا المعرفية والمهنية، وقبائلنا، ومذاهبنا الفكرية وانتماءاتنا العقائدية.. وإلخ.. ويغيب عن بالنا حين تتحكم فينا المشاعر الباطلة، أنّ الكمال يكمن في اتباعالحقيقة، لا انزلاقات الهوى!!

قال تعالى:"وقالوا ربنا إنّا أطعنا ساداتنا وكبراءنا فأضلوناالسبيلا" (67) الأحزاب. في فهمي أنّ الذي يدفعنا لاتباع السادات والكبراء هو شعورنا بالانتماء لهم وحين نتحدث عن الشعور فنحن نتحدث عن العاطفة، هذه التي تزداد وتيرتها شيئا فشيئا حتى تغلب على العقل فيكون الاتباع نابعا من الحب الأعمى لا عن بصيرة بأحقية فكرة معينة، وهذا ما يراه القرآن باطلا في أصل الإيمان، فالاتباع يجب أن يكون للفكرة، للحقيقة لا للأشخاص، إذ أنّ النتيجة حينها تكون وخيمة إلى حد سوء العاقبة !!! في موضع آخر من القرآن الكريم ، يقول الحق جل و علا :" ياليتني لم أتخذ فلانا خليلا " هنا لطيفة والتفاتة مهمة جدًا في القرآن الكريم؛ إذ أنّ الأخلاء عادة ما تربطهم علاقة عاطفية تتجاوز الرهبة التي قد يجدها المرء مع السادات والكبراء، هذه العاطفة ينجرف نحوها المرء بارتياح كبير، لأنّ الصداقة سكن للروح والنفس، وهدأة من ضجيج الحياة و أحوالها وهي مشاركة لتفاصيل الحياة ونهجها، ولا يخفى على أحد المتعة والأنس الذي يجده المرء مع أخلائه، خاصة لو طالت السنون. ولاضير في ذلك إلا لو فقد المرء توازنه بين العقل والقلب، ورأى خليله صاحب الحقيقة في جميع المفاصل والقضايا حينها قد تسوء العاقبة!!!

حينما يتحرك العقل في جهة إثبات الحقائق بغرض التحسين والتطوير في الحياة ستتلاشى أمراض الحسد والغيرة والبهتان والإشاعة وكذلك خطأ التقدير، وسوء الاختيار إلى حد كبير، ولعل امراة فرعون التي ضُربت كمثل في القرآن الكريم، وصلت إلى هذه المنزلة حين استطاعت أن تنخلع من عشق زوجها، هذا الانخلاع الذي بنى لها قصرا في الجنة؛ لأنّها لم ترض أن تُخدش الحقيقة بسكين الحب مهما كان هذا الحب رفيقًا بها، لقد استطاعت أن تقف في مقابل نقد الذات حين أثبت لها البرهان الذي لاءم زمانها ومكانها أحقيّة دين موسى (ع).

يقول الإمام علي (ع):" اعرِف الحق تعرف أهله "البحث عن الحق هو الغاية التي يجب أن يعيش عليها الإنسان، ورجوعا إلى دائرة الصراع الذي الذي يمر به المرء أظن أننا بحاجة إلى أنماط تربية وسلوك يروضنا على مبدأ التغيير طالما أثبت البحث الموضوعي والواقعي خطأ ما نعتنقه من مبادئ أو أفكار، كما أننا بحاجة إلى أن نتعلم الثوابت المعرفية العلميّة التي يُفترض الاستناد عليها لترجيح رأي على رأي، هذه الثوابت التي قد تختلف من علم إلى آخر، فإثبات نظرية فيزيائية حتما يأخذ منحًى مختلفًا عمّا يقتضيه من دلائل لإثبات حقيقة تاريخية، وهو أمر لا يختلف عليه عاقلان كانت الحقيقة ضالتهما المنشودة!!!

إن قبولنا بالنقد والنقد الذاتي هو الطريق لحل الكثير من المشاكل التي تواجهنا،وتعترض مسارات حياتنا، وهو الطريق الوحيد لتطويرها، أمّا الأهم من ذلك فهو تربية المجموعات على قبول النقد، والأكثر أهمية أن يقبل أصحاب أيّ أيديولوجية أو انتماء أن يوجّه لأفكارهم النقد الذي يعتبر بمثابة الكيّ للذهب حتى يُخرج أصفاه وأحسنه، بل يجب عليهم أن يتجهوا إلى نقد أنفسهم من الداخل لتتشكل معالم أفضل للقناعات في كل مرحلة، وإلا فإننا نسير في دائرة الجمود المفرغة!!

من جانب آخر يمثل التعصّب العاطفي من قبل المجموعات -و هو التعبير الصحيح لما أتكلم عنه - بؤرة لما يُطلق عليه المفكر الكبير مالك بن نبي(القابلية للاستعمار) إذ أنّ قناعتنا بصوابنا إلى حد الألوهيّة المقدسة يعني أنّ الآخر يهدم بنيان هذه الألوهية،وبالتالي يغدو اختراق هذه المجموعات المتعصبة من زاوية الابتزاز العاطفي لها أسهل بكثير، وغسيل الأدمغة يكون متاحًا لأنّ الاجترار العاطفي تمّ مسبقًا وبلاشك وفق خطة معدّة مسبقا كذلك، إنه المجتمع الذي أصبح قابلا للاستعمار الفكري من قبل أي مجموعة ذات أهداف مشبوهة لأنه يميل لمن يحبه عاطفيا لا عقليا، إنه يحب فكرته لدرجة أنه لا يقبل أن يخضعها للمقاييس النقدية! أو أنه يحب نفسه التي وهبتها الفكرة هالة القداسة!! و في كلًّ شرٌّ مقيت أنجب لنا داعش و أخواتها !!

لم ينتخب الله من رسله من كانوا أكثر قبولا عاطفيا، وميلا قلبيا من قبل أقوامهم، بل إنّه انتخب من رسله من عُرف بين قومه بالرشد و الحكمة، أي بالعقل، ولم يأت الأنبياء ببراهين تحرك العواطف في نفوس أتباعهم، بل كان العقل مرة أخرى هو الفيصل ولأجل ذلك كان أتباعهم دومًا قادرين على تحمل أشد أنواع العذاب، لأنها الفكرة التي غذت العاطفة الإيمانية الواعية لاحقا، واستطاعت أن توظّف الجميع (العقل والقلب) لخدمة الفكرة (الحقيقة).

وإذ نحن في بلدنا الحبيب مقبلون على فترة انتخابية جديدة لأعضاء مجلس الشورى، فإنني أدعو نفسي أولا ثم الجميع إلى إخضاع المترشحين لمقاييس الكفاءة، لا مقاييس العواطف؛ لأننا نختار بناة أوطان، واختيار بناة الأوطان وحملة الأمانات يقتضي أن يحضع الكل لمعيار الحقيقة لا غير، كما أنني وانتصارًا للحقيقة ذاتها أقول إنّ القائد الفذّ هو من يصنع ممن حوله من الأشخاص قادة، ونحن دومًا بحاجة إلى الأكفاء الذين يخلّفون من بعدهم من يكمل المسيرة وهو حديث لكلّ من يُكتب له تكليف الترشّح لهذا المنصب المهم أنّها الحقيقة تقولإنّ المناصب لا تدوم لنا، ولكنّالوطن دوما باقٍ، فلنعمل لأجل الحقيقة الباقية في كلّ حين.

s.allawati@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك