خيار النجاة الوحيد في جحيم الكراهية

رحاب أبو هوشر

إنْ سألوا النور أن يشرح ما هو الظلام، ربما صَمَت لبرهة صمت العارفين، ثم قال: كيف أشرح ما طهرت نفسي منه، فما عدت أعرفه أو أراه؟ لذلك؛ فإنَّ النور كامل الضياء، والظلام منتهى العتمة. لكن ليس كل ما هو تحت النور مضيء، ولا كل ما في الظلام معتم؛ لذلك سيبقى هناك دائما متسع للحب، ابن النور وغصن شجرة الحياة الطري، حتى وإن بقي وحيدا بين أغصان تخشبت وصارت حطبا، طعاما لنار الكراهية والموت.

بأمس الحاجة نحن إلى استجلاء النور في أعماقنا، كي ننجو من هذه العتمة، الحاجة ذاتها للحب تتزايد مع ارتفاع صوت الكراهية وطغيان لغتها. لن يبق للأمل مكان أو أثر، إن فقدنا الإيمان بعظمة الحب وقوة أثره في حماية الحياة واستمراريتها.

الحبُّ بما هو الخير والجمال، ليس قيمة فائضة عن الإنسان، بل خميرة كينونته، وسيظل قادرا على أن يفيض بها ما إن يفتقدها ويبحث عنها، وما دام قادرا على تلمسها وإشاعتها في داخله وحوله. ستظل جدرانه رطبة، وعيناه ممتلئة بالجمال، ويده مفتوحة للخير، إنْ هو جعل قلبه قبلة للحب ونوره، موئلا له.

لن يكون إنسانا من ينكره، أو يلقي بردائه عن قلبه وروحه. وليس منا من تحصن ضد لفحاته، وكسر عنق زهرته، كلما تبرعمت في أرضه القاحلة. والتعساء من أخطأهم، أو أخطأوه. هؤلاء خسروا عسل الحياة النابت كعشب بري لكل من رغب قطفة من حلاوته، ولن يجنوا إلا أشواك قلوبهم المتصحرة.

الحبُّ أحد تجليات القوة في الإنسان، وانتصاره. الضعفاء فقط يتهربون من مواجهته، ولا يصيب إلا الأقوياء، ذوي الأرواح العالية، ينتقيهم لأنهم وحدهم من يتقنونه، إنهم من يدركون حاجتهم الدائمة له، لكي يزدادوا قوة، فليس ما ينكسر فينا إلا أرواحنا. الآلام والأزمات والتحديات، لا تمثل هزيمة بذاتها، ولا تنقص من قدرتنا إلا قليلا، أما إذا انهدّ "حيل" الروح، فإن نور القلب ينطفئ، ويهرم معه الجسد، وتصبح الحياة يوما رماديا طويلا.

بالحب أديرت صراعات، وتحققت انتصارات، وانتشرت رسالات دينية غيرت وجه التاريخ، بدءأ من المسيح وقوله: "اشتروا أعداءكم بالمحبة"، وليس انتهاء بالرسول (ص) وقوله لأهل مكة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". وإن كانت الكراهية وطاقة شرها، تبدو عبر التاريخ أكثر قوة وأشد شراسة من الحب، إلا أنها لم تتمكن من إزالته أو القضاء عليه؛ لأن الكراهية أعجز من أن تدرك سر طاقة الحب الخالدة، وسيظلان يمثلان ثنائية ديمومة هذه الحياة حتى فنائها. بالكراهية بدأ الإنسان حروب شروره وبها اليوم يعم الخراب؛ فالحرب فعل كراهية. لا يكفي امتلاك السلاح واستخدامه للقتل، فما بين الضغط على زناد السلاح وإرداء القتيل، شحنة هائلة من الكراهية، تطلق مع الرصاصة.

لكنَّ الحبَّ وإن كان صوته خافتا، إلا أنه الطاقة الإنسانية الأقوى والأطول أثرا في حياة البشر، والأكثر تعقيدا من كراهية سهلة غريزية، سلاح لا يجيده إلا من فهم خطورته وأهميته، وعرف لغته أيضا. بالحب وفلسفة النضال السلمي، قاد "غاندي" شعبه للتحرر من الاستعمار البريطاني، وبنى "نيلسون مانديلا" وطنا جديدا لكل فئاته، بفلسفة الحب، وترميم الجراح والعذابات بالتسامح والغفران، لا بالثأر والسخط والانتقام، للمضي قدما نحو المستقبل والحياة.

فلسفة الحب العميقة في احتضان الحياة، تجعل منه أسلوبا متكاملا للتعامل مع تفاصيلها. نزاعات تشتعل، ولا يطفئها إلا الحب، حميميته العظيمة تغمر النيران مثل ماء بارد غزير، وتجتث نار العداوة من جذورها.

علاقات إنسانية كبيرة وصداقات تاريخية، كادت خصومات سخيفة أن تحطمها، لولا من تفوق على الآخر بالحب، كان الأشجع إذ بادر بالاعتذار والعفو، ومد يده للحبيب والصديق، كي يحمي المحبة ويحمي قلبه من الوقوع في براثن الغضب والكراهية، والندم أيضا.

لن يتسامح ويصفح إلا من كان قلبه معافى من المشاعر الرمادية والسوداء، وسوء الظن والشك والغرور، من كان قادرا على فعل الحب.

ماذا نفقد لو وسعنا مساحة القلوب، وفتحنا في جدرانها شبابيك واسعة، نطل منها على الآخرين، نصغي لهم ونتفهمهم، نجد أعذارا لإساءاتهم، ربما كنا نحن المخطئين!

تتردَّد كلمة "الحب" حدَّ الابتذال، استهلكت وفرغت من معناها، لكن الحب ذاته لا يستهلك؛ لأنه طاقة الحياة المتجددة. ليس مجرد كلمة نقولها لشخص ما ونمضي، إن لم نبرهن عليها سلوكا، ولم تصل ذبذباتها من قلوبنا إلى قلبه، ولا هي أغنية رومانسية ندندن بها حالمين، نعيش فيها أحاسيس حب لحظية، ثم نخرج منها فاقدي الذاكرة.

... إنه الحياة كلها، ولا يكملها فقط. الحب رشة الملح التي لا يطيب طعام بدونها، ومعلقة السكر التي تذوب في حلاوتها مرارة التعاسة والألم. الحب يجعلنا أجمل، ونوره قادر على محاصرة الشر وإخماد ناره. وفي جحيم الكراهية العربي، ليس لنا من خيارات النجاة إلا الحب، جدار مقاومة أخير.

تعليق عبر الفيس بوك