عبدالله الحجي
تتلاشى في المقابر كلُّ ألوان التفاضل بين الناس في هذه الدنيا، وتبقى خصلة التقوى المعيار التي يُحتكم إليها في سعادة المرء أو شقاوته؛ فالمعايير الدنيوية التي يتفاضل بها الناس بعضهم على بعض، لا وجود لها حينما ينضم المرء إلى قافلة من نزعت أرواحهم، فرُبَّ شخص مشهور في الدنيا، مغمور في الآخرة، ورب شخص لا يُعبأ به في الدنيا، هو في الآخرة في أعلى عليين، في مقام أمين.
وعندما يُصفُّ الأموات في قبورهم صفا، لا يُميَّز بين أمير وحقير، ولا غني وفقير، فكلهم في أرض المقابر سواء، وإنما يمتاز بعضهم عن بعض بمصيره الذي آل إليه؛ جزاء عمله في دنياه، فإن كان صالحا ففي جنة عالية، وإن كان طالحا ففي نار حامية -نعوذ بالله من حرها.
فلا ينفع الحاكم حكمه، ولا الأمير إمارته، ولا الغني غناه، ولا ذو المنصب العالي منصبه، إلا بمقدار ما قدَّم من أعمال عَلِمَ حقيقها عند نزع روحه من بين حنايا جسده. فلا يغتر عاقل بمناصب الدنيا، فهي إلى زوال لا محالة، ولو بعد حين، فالكراسي لا تدوم، والمناصب لا تبقى، فكم مقعد رفيع في الدنيا توالى عليه أشخاص وأشخاص، وهذه سنة الله في الحياة أن لا يدوم شيء لشيء، إلا أعمال البر، فإنها تدوم لصاحبها، بتوفيق من الله جل في علاه.
فلا يُضحِّي العبد الفَطن بدينه من أجل منصب دنيوي، يقدِّم التنازلات تلو التنازلات في دينه؛ ليقع عليه الاختيار، لشغل ذلك المنصب الذي حتما سيغادره، ولو بعد حين. فالله الله قبل وقوع المنية، فكل ما في الفانية فانٍ، فيأيها المغرور بمنصبه" إن كنتَ ثانيهم فأين الأول".
((أينَ الملوكُ التيكانتْ مُسلطــنةً...
حتى سَقاهَا بكأسِ الموتِساقِيها
فكمْ مدائنَ في الآفاقِ قـــد بُنيتْ...
أمستْ خرابًاوأفنى الموتُ أهليها
لا تركِنَنَّ إلىالدنيــا وما فيــهـا...
فالمـوتُ لا شـكَّ يُفـنـيـنا ويُفنيــها)).