على طاولة بن دارس (1)

سلطان الخروصي

((صلى الملائكة الذين تخيروا...

والصالحون عليك والأبرار

وعليك من صلوات ربك كلما...

نصب الحجيج ملبدين وغاروا))

ما أفجع القلم حينما يقتنص الفناء مداده، وما أضجر الحر حينما يرحل المخلصون بلا ميعاد، فجع الكثيرون برحيل قلم سيال مناضل احتضنته عمان الطاهرة منذ الثمانينيات حيث جند ريشته ليرسم صورة مشرقة للكاتب والمدون العماني، رحل "بن دارس" بهدوء وصمت بعدما خط قلمه عواصف جرته إلى يد القاضي لكنه خرج وهو يرفل بثوب البراءة والمصداقية؛ لأنه لم يرضَ يوما أن تدنس مصالح الوطن والمواطن بيد من أعمتهم المناصب والأموال، لن أستعرض في هذا المقال يوميات وتفاصيل حياة "علي الزويدي" -رحمه الله- بقدر ما أنني أطرح فكره وآراءه ودوره الوطني المجيد لكثير ممن سألني بعد رحيله وقد زينت (بروفايلي) بصورته المشرقة من هذا الرجل؟، وما الذي قدمه للوطن؟

حينما نذكر "بن دارس" فإننا نتذكر حربه الضروس للكشف عن ظاهر وبواطن الفساد الإداري والمالي بالمؤسسات الحكومية وبعض مؤسسات القطاع الخاص، تميَّز "الزويدي" بجرأة الطرح ومنهجية علمية في الكتابة والتحليل والنقد من خلال التقارير المعتمدة والإحصائيات الرسمية وتتبع المؤشرات العلمية، وقد أجريت معه مقابلة قبل تسع سنوات وبالتحديد في العام 2007؛ حيث تناولت تلك المقابلة زخما كبيرا من الأسئلة المتصلة بالاقتصاد والسياسة العمانية والخليجية -باعتباره شخصية أكاديمية متمكنة في المنظومة الاقتصادية، علاوة على أنه مهندس طيران ومحلل سياسي- فكان يرى أن الاقتصاد العماني لا يزال في مرحلة عقيمة قد تستنزف من عمره عقودا طويلة؛ لوجود أشخاص نافذين سماهم بــ"القطط السمان" التي تبتلع الكثير من القرارات والتوصيات والدراسات المؤمَّل منها أن تخدم الصالح العام لأنها ترى في ذلك تعارضا مع مصالحها الشخصية، كان يرى أن العلاقة بين مراكز البحث العلمي ودورها الرئيسي في المضي بعجلة التنمية والتطور الوطني هي علاقة تكاملية؛ إذ يقول: "إنَّ تقدم الدول رهين بالعديد من الأمور وليس بالبحث العلمي فقط؛ فمثلا قد تم إنشاء مجلس البحث العملي في السلطنة، فهل ميزانية هذا المجلس والتي لا تزيد على 5 ملايين ريال قادرة على جعل السلطنة في مصاف الدول الصناعية؟ بالطبع لا، صحيح أنها خطوة إيجابية وخطوة أولى، لكن الأمر إذا ما تعلق بالتقدم فإنَّه أبعد من ذلك، هناك القوانين التي لا بد أن تتغير وهناك البيروقراطيات التي لا بد أن تستبدل وهناك المسؤولون بمن فيهم وزراء ووكلاء لا بد من تغييرهم ولا بد أن تكون سياسة التكنوقراط ركيزة أساسية في التقدم للدول؛ فماذا لو اقترح شخص جهازا علميا وسانده مجلس البحث العلمي (كما كان يفعل النادي العلمي)؟ لا شيء، فقانون الخدمة المدنية لدينا أصلا لا يعترف بالشهادات التخصصية، ولي خبرة في هذا الشأن لأمر نعاني منه نحن في قطاع الطيران المدني التخصصي. أما الميدان الاقتصادي، فهو تخصص خليط بين العلم والفن؛ فالاقتصاد في السلطنة خليط بين عدة نظريات وعدة مرتكزات؛ بين النظام الإسلامي والاشتراكي وحتى الرأسمالي، فيحاول أن يأخذ ما هو أفضل من كل نظام، فيخرج لنا تارة بأفكار بناءة وتارة بفشل تام وبخسائر مادية في شكل مشاريع لا يتم محاسبة المتسبب أو المسؤول عن تلك الخسائر، فلسفة النظام الاقتصادي لدينا تحاول إرضاء كافة الأطراف لكنها تنجح مع طرف وتفشل مع طرف آخر، جدير بالذكر أن لكل نظام عيوبه وميزاته، وحتى من ينشد النظام الاقتصادي الإسلامي وهو الأكمل إلا أنه سوف يصطدم عندما يعرف أن النظام الإسلامي لا يمكن أن يعيش عن عزلة من الاقتصاد العالمي المتداخل، فسلعتنا الأساسية هي النفط ونبيعها بالدولار، وعملتنا المحلية مرتبطة بالدولار، حتى وإن "فككنا" هذا الارتباط فهل اليورو أو الجنيه الإسترليني أو الين الياباني (كسلة عملات) هي نظام إسلامي؟ بالطبع لا، واستثماراتنا أيضا بالدولار خاصة فيما يخص الصندوق الاحتياطي العام للدولة؛ فهذا الصندوق والذي يزيد ما فيه على الثلاثة مليارات ريال عماني يعمل بنظام الاستثمار في داخل السلطنة وخارجها، ويكون الدولار هو العملة المهيمنة في ذلك الاستثمار".

انتقد "بن دارس" الاحتكار الاقتصادي الذي تمارسه "بعض" الأسر على الاقتصاد الوطني، بل إنه قدم عبر مختلف مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات ملفات تكشف حجم التغلغل المالي والإداري لبعض الأسر في اقتصاد البلاد عل الرغم من توقع النتائج السلبية الوخيمة التي ستتكبدها ميزانية الدولة، ومما أورده في المقابلة التي أجريتها معه قوله: "على الرغم من وجود قوانين رادعة ضد الاحتكار "قانون شيرمان الأمريكي الذي ظهر في العام عام 1893"، فإنَّ المسؤولين في السلطنة يقولون دائما بنظرية الاقتصاد الحر، في حين أن أكبر اقتصاد عالمي وهو الاقتصاد الأمريكي وفيه قانون منع الاحتكار (Anti-Trust Act) بالإضافة إلى قوانين لحماية المستهلك، كما يكثر الحديث عن حرية الاقتصاد، فما هي الحرية في ظل وجود أسر تحتكر وكالات السيارات، إضافة إلى دخولها سوق الإلكترونيات، ومواد البناء، والمواد الغذائية...وغيرها من السلع والخدمات الأساسية للبلاد؟ وهذه الأسر وغيرها من عشرات الأشخاص المحتكرين يستندون إلى قانون الوكالات التجارية في احتكار احتياجات المواطن وفي علم الاقتصاد هناك نوع من الاحتكار يسمى (Oligopoly)، وهو بمثابة قيام مجموعة صغيرة باحتكار السوق؛ فمثلا كم عدد موزعي السيارات في السلطنة؟ وهل هناك بدائل عديدة للمواطن لقطع غيار أصلية لسيارته؟ بالطبع لا، إنَّ الاحتكار لهو من أسوأ الظواهر الاقتصادية التي تكاد أن تقتل السوق، فهي لا تحركه سوى في دائرة مغلقة، ورغم أن قانون "الوكالات التجارية" قد أباح في تعديله الأخير تعدد الوكالات، إلا أنَّ السوق قد تشبع والاختراق أصبح شبه مستحيل، فكيف مثلا لشخص يأتي ليخترق سوق أحد الوكالات المنتشرة في كافة ربوع السلطنة؟ هذا بخلاف أن أصحاب الوكالات لهم من الأساليب القانونية وغير القانونية التي تجعل من أي شخص يفكر أصلا في منافستهم أن يفكر ألف مرة؛ لأن مصيره "التطفيش" و"التطنيش" بكافة الوسائل المتاحة وغير المتاحة لدى قوم "ناير" وصديقه "كومار" وأخيه "بابو"...

sultankamis@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك