في حديقة حمود الشكيلي

ليلى البلوشي

حين أعُوْد إلى طفولتي كتلميذة، فإنَّني لا أتذكّر من المنهاج المدرسي شيئا، ولعلَّ ذلك أمرٌ طبيعي تماما؛ لأنَّ تلك المناهج ليست للتذكّر بقدر ما هي معرفة القواعد، المعرفة التي ترسبت في حيز ما من أعماقنا، لكن ما يذكر وما نتذكّره حقا هو الكلمات، والنصائح، والتوجيهات، والوصايا، والإرشادات، ونبرة معلم حكيم ومعلمة حكيمة، مهما تباينتْ تسمية ما يقوله المعلم وما تقوله المعلمة من خارج المنهاج الدراسي هو ما يترسخ حقا في أعمق حيزّ من قلب الذاكرة.

حين أعود إلى تلك الطفولة العتيدة، أتذكّر عبارة معلمة اللغة العربية حين شاع في جيلنا قراءة روايات عبير المترجمة، التي عُرفت بأنها تحوي على عبارات وكلمات غير لائقة -كما كنا نسمع من الكبار- حتى إنَّها كانت ممنوعة في البيت وفي المدرسة أيضا، ومن كانوا يجدون بحوزته رواية من إحداها كان يعاقب كما لو أنه اقترف إثما، وحدها معلمة اللغة العربية لم تر في قراءتها أي غضاضة، بل وضحت بعبارة ذات مغزى نبيل: "اقرأن كلَّ شيء طالما الوازع الديني موجود".

ومذ يَوْمها صرت أقرأ كلَّ شيء: المرغوب والممنوع من الكتب؛ لعلَّني كنتُ بحاجة إلى تلك العبارة التي قالتها معلمة اللغة العربية كي انطلق بجسارة إلى عالم الكتب والقراءة؛ فالمعلم هو دائما قدوة، وجل ما يقوله مقدس ومن هنا اكتسب المعلم مكانته الراسخة في معظم دول العالم لا سيما الدول الحديثة.

اليوم... وأنا أتأمل كتاب "شعلة حديقة الكلمات" التي جمعها وأعدها وقدم لها الكاتب العماني حمود حمد الشكيلي؛ أكاد أجس تلك الشعلات التي أطلقها المعلم حمود في شرايين طلابه وطالباته.

فكرة هذا الكتاب تذكِّرني بتجربة المصوِّر الأسترالي جيمس موليسون الذي أخذ على عاتقه تأليف كتاب يكون عنوانه "حيث ينام الأطفال" يحكي تفاصيل غرف الأطفال ومكان نومهم في سعيٍّ جديد من نوعه، ومن خلال كاميراته وثق تجربة آسرة لعدد من الأطفال عبر العالم المترامي، هناك في أوطانهم، الثرية منها والمعدمة، المخملية لبعضهم والمتعثرة لبعضهم الآخر، كوَّن من خلال كتابه ظروف الحياة التي يحياها الأطفال في بيئاتهم، تغدو لمن يطالع الكتاب مع ملصقاته كصلاة تأملية طويلة عن معنى الوجود وغايته.

ونطالع في حديقة الكلمات للشكيلي قصصًا قصيرة جدًّا تناثرت كزهور الربيع بجمال، تفاوتت درجات نضجها، معظمها تفيض بالدقة والرصانة، المثابرة في انتقاء الفكرة، وإن جاءت أغلبها عفوية، وهنا يكمن منبع جمالها الأخاذ، تلك العفوية التي لا يتقنها سوى الصغار لعقولهم الغضة ولنفسياتهم التي تقبل على الحياة بكل محبة و حماس.

ومن بعض لك القصص المتقنة -كما لو أنها صاغتها أنامل كبيرة- قصة "الفكرة" للطالب محمد البادي حين كتب: "سأل الطالب معلمه: أعطني فكرة قصة، رد المعلم: إذا أعطيتك فكرة تكون ملكي".

أما في قصة "أكلت المعلم" للطالبة سارة باعبود، فنجد الرؤية المجازية التي ختمت بها الطفلة أقصوصتها الذكية: "وعد المعلم طلابه بالحلوى، لكنه في اليوم الثاني نسي الحلوى، فأكل الطلاب المعلم".

وتتجلى الطرافة بكل أبعادها في قصة "نملة" للطالب مروان العدوي: "نملة صغيرة، ذات جسم وعقل قادر على احتلال العالم، لكن قدم الإنسان ثقيلة جدا".

والطرافة عينها يجسها القارئ في قصة "في السرير" للطالبة سماء العدوية، التي تلامس واقعا يمر به معظم الصغار في سن معينة: "تسخر المثانة من المنبه، تؤدي وظيفتها في الصباح أبكر منه".

وفي قصة "الفشل"، تتجلى الطرافة مع الواقع أيضا على شكل أقصوصة حوارية من معين الطالبة لينا طه: "سأل الأب ابنه: لماذا رسبت؟ فرد: من كان بجانبي لم يذاكر".

"شعلة حديقة الكلمات" حيث الحياة يمكن جدًّا أن تلتقي عناصرها الكونية في قصة قصيرة جدا من بضع كلمات متراصة بحكمة. هو الكتاب الأول من نوعه من معين فكر الأطفال، ولكن يكمن أهمية هذا الكتاب بأنه ثمرة حقيقية عن الجهود التي يبذلها المعلم في سنوات التعليم انتصارا للموهبة، انتصارا للخبرة التي ترسَّخت في عقول الطلاب والطالبات بفضل معلم واعٍ وقادر على إنتاج جيل ينطلق نحو التفكير الإبداعي والإنجاز الفكري في مجالات الحياة ليس في الأدب فحسب، وهنا تكمن وظيفة المعلم الحقيقي.

أذكر مرة في حوار مع الروائية السعودية رجاء عالم أثناء نيلها جائزة البوكر العربية عام 2011م عن روايتها "طوق الحمام"؛ اعترفتْ بأنَّ اتصالها المباشر مع الأطفال -نظرا لوظيفتها- هو ما عمَّق رؤاها السردية في الكتابة.

أعتقد -ومن واقع تجربتي الشخصية- أنَّ أكثرَ وظيفة تتلاءم وشخصية الكاتب هي وظيفة التعليم؛ لأنَّ المعلم سيتعاطى مع أرواح جديدة تُنجب جديدها في كلِّ عام، ولأنه يكون على اتصال مباشر ويومي مع عقول وأطباع ونفسيات حقيقية تجسد الواقع بأشكال متباينة.

Ghima333@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك