رمضان في زمن الحروب

زينب الغريبيَّة

أتى رمضان ضيفًا كريمًا يحملُ معه -كعادته- التباشير الروحانية والغفران والعتق من النيران، إلا أنه يأتي هذه المرة ولا يعلم أين يحل وفي أي موضع يليق به سيوضع، في وسط الحروب التي تطحن العرب المسلمين، في اليمن وسوريا والعراق، وعدم الاستقرار في ليبيا وتونس ومصر، وفي حروب الأنفس البشرية في بقية البلاد، تلك الأنفس التي تجابه الحروب بين الواقع والمنتظر، بين الصحيح والمزيف، بين الحلال والحرام. بدا الحزن يلف وجه رمضان الكريم، الذي أتى لينتشل العباد من حالة اليأس والخوف، والبعد عن الدمار للفوز بالمغفرة، والخروج من قيود الدنس والجري وراء الدنيا بلا عقلانية.

إلا أنَّ الطريقَ أمام رمضان لم يكن بتلك السلاسة التي عهدها من قبل؛ فما ينسلخ عاما ويأتي غيره حتى يشتد تأزم الوضع في حال المسلمين، بين الجراح واليتم والتشرُّد والجوع تحت وطأة الحروب النابعة من الداخل أو ربما الخارج، ولكن يبقى الأصل في الاستسلام والخضوع، ويبقى النداء للخارج أن أغيثوا المنكوب، ومن هم بالخارج لا يملكون أدوات الإغاثة كمواطنين بسطاء صلاحياتهم محدودة، ويبقى القرار في حزمة الشجب والإدانة.

هل يتحمَّل رمضان عبءَ مسح كل تلك الجراح، أو إصلاح المكسور، ليقوم المسلمون من جديد ليشكلوا الجسد الواحد؟! أم أنَّ المسلمَ في خارج إطار الحرب، يعيش في سكينة وتصالح مع رمضان؟ وأن الحرب ودمارها هي العائق الوحيد لتلقي رمضان واستغلال بركاته ونيل الغفران والعتق من النيران؟ أم أنَّ النفس البشرية التي تتشنج تعلقا بملذات الحياة ومغرياتها تبقى هي العائق؟ إذن؛ فالحرب هنا هل هي حرب بشر وسلاح، أم حرب نفس أمَّارة بالسوء، أم حرب كفرة جلبوا لنا من مغريات الحياة ما يدمرِّون به كينونتنا الدينية الراقية؟ فأيُّ حرب يواجهها معنا رمضان؟ أم كلها مُجتمعة؟

حين تعرضُ لنا المتاجر كلَّ تلك الأصناف من المنتجات الغذائية التي من الممكن أن نصنع منها أشهى الأكلات، وتغرينا على التنافس في تقديم ما لذ وطاب، ونقضي الساعات الطوال في التفكير في قائمة الأكلات لهذا اليوم، ثم تنفيذها ثم تقديمها ثم أكلها ثم رمي المتبقي منها، وحين تتسابق القنوات الفضائية لعرض الجديد والمتنوع من منتجات المسلسلات والمسابقات المغرية والجذابة، بما تحمله من قصص آخر صرخات الموضة في اللبس وقصات الشعر والبيوت ونمط الحياة، والجوائز القيِّمة في المسابقات. أين يُمكن أن نضع رمضان في موضعه الصحيح؟ فالحرب الداخلية تتنازع بين مغريات تميل لها النفس البشرية، وبين بشائر الغفران الخفية، بعيدة المدى التي يعمل الإنسان كثيرا ويجاهد حثيثا من أجل أن يبلغها في عالم يأتي في مستقبل الغيب لا تدركه الأبصار.

حتى عندما يدعو رمضان لزيارة الأرحام، من باب صلة الدم، ونبذ الفرقة والهجر والتفكك في المجتمع المسلم، نجد أنَّ تلك الزيارات تحوَّلت إلى استعراض أكبر الموائد، والتباهي بما لذ وطاب، ويجتمع الناس على كلام وهذر لساعات طوال، ينسون فيه بركات ضيفنا الكريم، وأن الدقائق فيه ليست كبقية الدقائق والساعات في بقية الشهور؛ فهي مباركة، والحسنة بعشر أمثالها وزيادة، ولياليه تحمل بين ثناياها الرحمة والمغفرة والعتق من النيران، ففي أي موضع نضع رمضان؟

... إنَّ كانت الحروب تمنع رمضان من أن يكون سعيدا بحلوله على دول الحروب المسلحة، خشية عدم مقدرتهم من استقباله في موضعه الذي يليق به، فهم تحت وطأة نتاج الحروب والتشرد والجوع واليتم، ولكن ما عذر من يعيش تحت تأثير الحرب النفسية التي يخوضها بين واقع المغريات الحياتية والغفران المنتظر؛ فهل سيُسامحه رمضان على عدم استقباله له بما يليق به؟ وهل سيكون عذره مقبولًا لضعف النفس البشرية؟ فهل الاستسلام لذلك الضعف مبرَّراً؟ أم مجابهته من أجل الغفران أمرٌ واجبٌ يستحق شحذَ الهمم؟ فمن يعي ذلك ويعقله؟ وليس مجرد سره وتناقله دون اليقين بماهيته والعمل به.

يعتبُ رمضان على من قام بالحروب وضيَّع الأمم، من شرَّدهم ويتَّمهم وسبَّب لهم الهلاك والجوع، وأصبحوا بمآل لا يمكن أن يستقبلوا فيه ضيفا ولا حتى العيش بسلام وكرامة، من حكومات وأفراد وقوى خارجية وداخلية حاولت التلاعب بمصائر أناس بسطاء كل همهم العيش الكريم في بيت بنوه من كدح سنين ليأتي عليهم رمضان في خيام وبيوت خشبية يموتون فيها جوعا وألما، صنع بشر ببشر من أجل ماذا؟ صراع من أجل مال زائل وسلطة فانية وعمر إنسان مهما طال فهو قصير في عمر الزمن، إلا أنَّ الغفران الذي يحمل تباشيره رمضان بعيد المنال عن مثل تلك الأيادي التي عصفت بالبشرية البرئية من أجل مصالح فئوية حمقاء.

الحالان أشبه ببعضهما؛ فالحرب البشرية هي ذات الحرب؛ سواء كانت حرب داخل النفس من أجل المرغوب اللامع الزائف، والوعد المنتظر والذي يحتاج إلى العمل وتهذيب الروح. أو كانت حربا بشرية دامية من أجل مكاسب دنيوية لفئة معينة من البشر على حساب مصالح بشرية لا تعد أكثر من مجرد أرقام في تعداد المشردين والموتى، وبين تلك الحروب يهرع رمضان، ضيفا كريما عله يحظى بدعوة صادقة من قلوب صافية صامت وقامت إيمانا واحتسابا، وسط تلك الحروب البشرية.. دَعْوة على إثرها تنزلُ السكينة فيعيد العالم ترتيبَ الأمور على أمل إيجاد نهاية لتلك الحروب، بكافة أشكالها.

zainabalgharibi@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك