المؤتمر الدولي السادس للدراسات الأباضيَّة.. "النهضة" في التاريخ العُماني

رضوان السيد

بدَعْوة من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عمان، انعقد المؤتمر الدولي السادس للدراسات الأباضية في معهد المخطوطات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم، بمدينة سانت بطرسبرج بروسيا، وقد حضره زهاء الأربعين باحثا ومتابعا، حاضر منهم خمسة وعشرون في تسع جلسات شهدتْ حوارات ونقاشات واسعة. وينتمي الباحثون إلى جنسيات أوروبية وأمريكية وكندية وروسية في الغالب. لكن شارك أيضاً بالمحاضرة والنقاش باحثون عرب بينهم عمانيون من جامعة السلطان قابوس وكلية العلوم الشرعية ووزارة الأوقاف ووزارة الثقافة.

دارتْ الجلسة الأولى من المحاضرة الافتتاحية حول مصطلح "النهضة" في السياقات العربية والإسلامية، وخصوصية التجربة العمانية في هذا المجال. ولم يحضر الأستاذ ويلكنسون، ولكن ألقى محاضرته أحد تلاميذه.. ولويلكنسون وجهة نظر معروفة في "النهضة" عرضها في كتابيه عن الأباضية قديما وحديثا في السنوات العشر الأخيرة. وهو يقسم النهضة إلى فترتين، الأولى في القرن الثامن عشر، وقد شهدت تجديدا في الفقه ونهوضا في التجارة والنفوذ فيما بين عمان وزنجبار. أما المرحلة الثانية، فإنها صارت جزءاً من نهوض عربي شامل: إحساس بضرورة التغيير ومصارعة الاستعمار؛ لذلك فقد تميزت بشكل عام لدى سائر العرب بالدعوة لمكافحة الاستعمار والدعوة لوحدة المسلمين للتمكن من ذلك، والدعوة للعودة للأصالة والمحافظة على الدين والمجتمع والدولة حفاظا على الهوية "سلفية جديدة".

وبعد محاضرة ويلكنسون، حاضر كريستيان لانجه عن مسألة "النهضة"، والخلاف حول حدوثها أو عدم حدوثها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بدءاً بالحجاز أو انطلاقا منه، وقد بدأ النقاش في الستينيات عندما ربط ألبرت حوراني "1962" بين النهضة والدخول الغربي إلى المشرق عبر الغزو الفرنسي لمصر "1799-1801"، وقد رد عليه عديدون بأن النهوض في تجديد البنى الفكرية والمادية حصل في القرن الثامن عشر، وقد ضربه الغربيون لصالح إدخال الشرق في السوق الرأسمالية العالمية، وسادت رؤية حوراني لفترة، حتى دخل "المراجعون الجدد" الذين لاحظوا سلفيا "وطهوريا" متشددا لدى حركات دينية وصوفية واجتماعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مثل الوهابية، والشوكانية اليمنية والسنوسية والعلوية والمدنية. وفي حين اعتبر الدارسون الغربيون الجدد أو أكثرهم في ذلك عودة "رجعية" للإسلام تظهر تجلياتها مرة أخرى في بدايات القرن الحادي والعشرين، كما ظهرت للمرة الأولى في القرن الثامن عشر ومطالع القرن العشرين، فإنَّ الدارسين العرب اليساريين والقوميين "وتبعاً لألبرت حوراني" اعتبروا أن "الإصلاح الإسلامي" الذي قاده التحديثيون مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالحميد باديس وأبو اليقطان والباروني، تطرق إليه التراجع والفشل بسبب استمرار الاستعمار، وسوء تجربة الدولة الوطنية العربية؛ فصعدت الأوصوليات في وجه الاستبداديات والغرب والمؤسسات الدينية التقليدية؛ باعتبارها التعبير الأصفى عن الدين الصحيح.

أما في محاضرتي "وهي الثالثة في الجلسة الأولى" فقد عرضت بعنوان "النهضة العمانية: التجديد الفقهي والإصلاح الديني رؤية أخرى للنهضة وللإسهام العماني"؛ فالنهضة أو الإحساس بضرورة التغيير في القرن التاسع عشر تعددت اهتماماتها وأولوياتها وميادينها. وإنما ظهر لدى السنة والشيعة تياران رئيسيان في الموقف من الإصلاح الديني، الأول يريد إصلاحاً دينياً يتخلص من تقاليد المذاهب الفقهية وأعرافها ويتقصد فتح باب الاجتهاد بالعودة المباشرة للكتاب والسنة. والثاني يريد التخلص من التقليد الفقهي والعقدي أيضاً إنما لكي يتمكن من التواصل مع الحداثة الغربية؛ باعتبار أنَّ الكتاب والسنة لا يحولان دون التقدم، وإنما التقاليد هي التي تعطل. وكانت النتيجة أن أعداء التقليد من الفريقين استطاعوا تنظيمه عبر عدة عقود، فظهرت محله الأصوليات التي استشرت في العقود الثلاثة الأخيرة.

أما "النهضة" العمانية، فإنها شاركت التيارات الأخرى في الدعوة للوحدة الإسلامية، وفي معادلة الاستعمار. لكنَّ الأباضية ما تخلَّو عن التقليد الفقهي المذهبي فظهر بينهم مجتهدون كبار مثل نور الدين السالمي، جددوا واجتهدوا من داخل التقليد أو التقاليد، وفي الفقه وأصوله، وفي التفسير وعلوم القرآن. وقد استعانوا على ذلك بأدبيات المذاهب الفقهية الأخرى كما يظهر في مؤلفات السالمي على وجه الخصوص. وهكذا فإن القطيعة عند الأباضية لم تحدث، لذا فإنَّ الأصوليات والإفيائيات ظلت ضعيفة، وحصل التجديد الفقهي والديني بسلاسة أكبر، وما حدث تأزم كبير أفضى إلى تيارات متشددة وعنيفة وانقلابية كما جرى لدى السنة والشيعة.

وفي الجلسات التالية، جَرَى -على تقطع- متابعة مسألة النهضة بالتفصيل. فقد كتب صالح البوسعيدي عن تطور علم الكلام الأباضي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكتبت أنجيليكي زياكا عن إحساسات "الهوية" العمانية والأباضية في زمن النهضة، وكذلك فعل جميس بدوماك وقاليري هوفمان. وقد افتتحت هوفمان محاضرتها بمسألة زنجبار والنهضة. فقد تحدثت بعدها أمل غزالي عن نهضة الصحافة العمانية بزنجبار، وحاضر بالتفصيل عن صحافة زنجبار العربية والنهضة محسن الكندي أيضاً. وللكندي تأليف في هذا المجال كما هو معروف.. وإلى جانب الاهتمام بثقافة وفقه وممارسات النهوض في عمان وزنجبار، كانت هناك محاضرات عن شمال إفريقيا "وادي ميزاب وجربة"، خاصة وأنَّ أعلاما مثل أطفيش الكبير والصغير وبيوض والباروني خرجوا من هناك، وهؤلاء إلى جانب الزنجباريين هم الذين أنتجوا المثلث: عمان-مصر-زنجبار. كما تحدَّثت أنا في محاضرتي عن نور الدين السالمي والتقليد الفقهي، فقد سرَّني أن كلاً من سليمان الشعيلي وأرسيليا فرانشسكا وفرحات الجعبيري ووليد صالح. قرأوا بعناية في محاضراتهم النتاج الفقهي والتفسيري عند السالمي وأطفيش وبيوض.

... لقد كان المؤتمر ناجحاً بما استقطب ومن استقطب من باحثين. كما كان ناجحا في قراءة ومراجعة مفهوم "النهضة" في سياقات تاريخية وجديدة.

وبالإضافة لذلك، فإنَّه تابع عهدا من الاهتمام بالوجود العماني في شرق إفريقيا والمحيط الهندي، وافتتح عهداً من الاهتمام بالتراث الفهي والكلامي عند الأباضيين المتحدثين.

تعليق عبر الفيس بوك