عن تشكل الهوية

جمال القيسي

ترى إلى أي حد من الممكن أن يتغير إحساس المرء بالزمن على نحو أفضل، بحسب المكان الذي يعيش فيه؟ أعني هل يملك من يقضي حياته في بقعة جغرافية محدودة، ولا يطرأ عليه تنقل من مدينة إلى أخرى أو من بلد إلى آخر، هل يملك هذا الشخص إحساسا إيجابيا بالزمن؟ هل "منسوب السعادة" لديه يزيد عن الشخص الذي يعيش طفولته وصباه وشبابه ورجولته وكهولته، مستقرا في بقعة جغرافية محدودة؟

لست أدري على وجه اليقين. لكن لابد من توسيع دائرة الاستنباط، واستقراء ما قال المتخصصون، فنلتفت إلى حقيقة أن الإنسان دأب على العيش ضمن "فكرة الاستقرار الجغرافي"، ولم يكن يخرج من هذا الحيز/ الكهف/ الصحراء/ الغابة/ مناطق الكلأ والماء/ (الوطن)، إلا لغايات الحفاظ على البقاء والنوع والبيئة السكانية/الأهل/الأقربون/ الجيران/الأصدقاء، (ألفة المكان والأشخاص). أي أن الإنسان لم يكن ليغامر بشيء خارج هذه الدائرة لغير دوام استقراره، وأنه حتى وهو يتعدى على مساحات غيره من الحيوانات (والإنسان أيضا) فإنما كان يفعل ذلك بحكم غريزة الإبقاء والبقاء على نعيم استقرار العيش وعدم الاقتلاع من بقعته الخاصة، وبما تشكله له هذه الثيمات من مفهوم صار عنوانا مجتمعيا أطلق عليه فيما بعد مصطلح الـ "هوية"، حتى إن الإنسان حين تطور وتشكل على صور متعددة، بعد حقب طويلة مختلفة، صار وهو يفرض "هويته" على ما يغصبه من مساحات جغرافية، ينطلق من محض مشروعه بالحفاظ على بقعة استقراره لا رغبة في اكتشاف مناطق أخرى واحتلالها! وهو ما رسخ وآمن به في جمعيته اللاواعية؛ أي التمدد في رقعته الجغرافية للحفاظ على دائرة استقراره لا زيادة مساحتها! الأمر الذي يقابله، بالضرورة، دفاع المجاميع الإنسانية الأخرى عن مناطق استقرارها، وعدم قبولها بالاندغام مع "الغير" في أي فكرة توافق أو تبعية، وبحكم الخوف، (الغريزي بالطبع) من تأثر فكرة الاستقرار لا أكثر. هذا على الأقل بعض ما يقدمه لنا علم الاجتماع، في باب السيرورة التاريخية لتشكل الهوية، وهو ما يعني أن الإنسان في أي توسع أو تعد على "الغير" إنما ينطلق من مبدأ الدفاع لا الهجوم. أي أنه يعود، في كل سلوكياته العدائية، إلى توقه ومبتغاه بالحفاظ على "فكرة الاستقرار"، ومن باب الدفاع عن إنجازاته في خلق هذه البيئة الجغرافية النفسية الخاصة، وليس من منطلق وبوتقة الظاهر الذي يوحي بأن مرد ذلك توسيع رقعة نفوذه!

كل ذلك، يشير إلى أن فكرة الاستقرار "غير الشجاعة أخلاقيا" هي محرك السلوك والتوجه نحو زلزلة "استقرار الغير" والتي يحكمها مقدار القوة التي يمتلكه طرف إزاء الآخر! ولا شك أن هذه الفكرة/ "القيمة العليا" وقرت في وجدان الإنسان نتيجة تراكمات وتجارب ضاربة في القدم ضمن صراعاته مع الطبيعة والحيوان، حتى رسمت ميوله ورسختها نحو نفسه، بأن الاستقرار لا سواه، ما يشكل ضمانة نفسية له تحميه من صدمات التجارب والمفاجآت التي يفترض أنه سيتعرض لها في أي مكان غير بيئته ومحيطه.

من هنا، فإن السؤال عن منسوب السعادة بين مَنْ ظاهره التنقل، ومَنْ طبيعته الاستقرار، يغدو ضربا ساذجا وبسيطا من أسئلة الرومانسية الحداثوية، التي يدحضها علم الاجتماع، إذ تحكم هذه المقادير من السعادة، لدى الفرد، الفكرة الجمعية الكلية في النفس البشرية. أي أن الإنسان المدني/الحديث/ المواطن حتى وهو يقيم في بقعة جغرافية محدوة، لا يمكن أن يختلف كثيرا عن ذلك المتنقل من مكان نحو آخر. حيث هو ابنٌ بارٌ لجينات لا تخرجه عن فكرة الانصياع لعقيدة الاستقرار، ولكن بما لها من أشكال جديدة، ومن أقلها التعدي على مساحات الآخرين الجغرافية/ النفسية/ الهوياتية على مستوى المجموع/الدولة، والنفسية/الشخصية (الخصوصية) على مستوى الفرد.

تعليق عبر الفيس بوك