يخطئ من يظُن أنّ ساكن البيت الأبيض وحده من بيده الحل والربط في مسائل السياسة الأمريكية، فهناك شبكة معقدة من المصالح تقف وراءها مجموعات الضغط التي تسعى للدفع بأجنداتها إلى صدارة اهتمامات الإدارة الأمريكية..
فيما تعمل مراكز البحوث على قولبة هذه المصالح ووضعها كإستراتيجيات تتبناها الإدارة الأمريكية وتتفانى في تنفيذها باعتبارها من أولويات السياسة الأمريكية، رغم أنّها قد لا تخلو من مطامع الهيمنة، وتوسيع النفوذ في العالم عبر أساليب وطرائق مُتعددة ومختلفة.
فالإدارة الأمريكية تعتمد وبشكل كبير على مراكز البحوث والخبراء من أساتذة الجامعات العريقة في هارفارد وبرينستون وكولومبيا وغيرها، لوضع إستراتيجياتها السياسية للهيمنة على العالم.
ومنذ انهيار جدار برلين في 1989 وضع هؤلاء المنظرون نصب أعينهم أهمية ترسيخ النظام العالمي الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، فهؤلاء رغم إدراكهم لمكامن قوة الولايات المتحدة، إلا أنهم وفي ذات الوقت يعلمون حدود هذه القوة خاصة فيما يتعلق بمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، وتبرز في هذا الصدد كتابات وشهادات أمثال المؤرخ نيل فيرجسون من جامعة هارفارد وإيان موريس من جامعة ستانفورد، ممن يعتقدون بتراجع قوة الولايات المتحدة، مقروناً مع تنامي نفوذ المارد الصيني، الأمر الذي يعني المزيد من التقهقر للنفوذ الأمريكي، ولأن القوة الصينية الصاعدة اقتصاديًا وعسكريًا تشكل هاجسًا لصناع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد تباينت الآراء حول كيفية التعامل مع هذا التنين الفتي، ومن بين الآراء تبرز وجهة نظر السياسي والمؤرخ الأمريكي المخضرم هنري كيسنجر والتي عبَّر عنها في كتابه الصادر مؤخرًا حول النظام العالمي الجديد، حيث دعا الولايات المُتَّحدة إلى استيعاب الصين وعدم التصادم معها.
وقد عرفنا كيسنجر كوزير خارجية في بداية السبعينات في حكومة نيكسون ولُقب وقتئذٍ بثعلب أمريكا لحنكته السياسية وقدرته على المراوغة حيث استطاع أن يُقنع السادات بالتوقيع على معاهدة السلام مع إسرائيل وتحييد مصر في الصراع العربي الإسرائيلي الذي يُعد اليوم أكبر نصرٍ لإسرائيل منذ تأسيسها. كما استطاع إقناع الملك فيصل بالتعامل بالدولار عند بيع النفط ليصبح الدولار أقوى عُملة عالمية دون أن يُقابله رصيد بالذهب.
ويرى كيسنجر - الذي كان كذلك من كبار مستشاري الرئيس السابق جورج بوش الابن وخاصة إبان أحداث 11 سبتمبر 2001، في كتابه الموسوعي حقائق وتطورات النظام العالمي، أنّ النظام الأمريكي نظام تعاون دولي يتوسع باستمرار ويضم دولاً جديدة ويجمع بين القوة والشرعية بالتركيز على القيم الأمريكية والمبادئ، ومن هنا فإنّ كيسنجر ينظر لنظام القطب الواحد على أنه مسؤول عن جانب من حالة عدم الاستقرار والحروب في العالم. ويستنتج أنّ إقامة نظام عالمي جديد أمر مهم دولياً لانتشار الفكر الديمقراطي والمشاركة السياسية وتداول السلطة.
ومن المفارقات العجيبة أنّ هذه النظرية والقائلة بتصدير القيم الأمريكية إلى دول الشرق الأوسط كما في العراق ومصر وليبيا، قد تمخضت عن فشل ذريع يُعبّر عن نفسه في غرق هذه الدول في حروب الميليشيات والطائفية ونموء الإرهاب في تربتها وازدياد التطرف الديني.
ومن أهم فصول كتاب كيسنجر، ذلك الفصل الذي يتناول علاقة أمريكا بالصين فمن المعروف أنّ كيسنجر هو مهندس العلاقات الصينية الأمريكية في السبعينيات، حيث نجح في ربط الدولتين بمصالح مشتركة بدهاء سياسي فريد..ويروي كيسنجر أنّه خلال زيارته الأولى للصين في عام 1971، قال للوفد الصيني المفاوض إنّكم "أرض ألغاز" وردَّ عليه رئيس الوزراء الصيني آنذاك" إنّكم ستجدونها غير مُلغزة بعد أن تتآلفوا معها، فهناك مليار صيني يجدونها طبيعية" ..
ومن هنا يُشير كيسنجر إلى حتمية أن يكون النظام العالمي الجديد شراكة بين أمريكا والصين، باذلاً نصحه للإدارة الأمريكية باعتماد أسلوب الاحتواء في التعامل مع الصين، والنأي عن أساليب التصادم لأنها لم تعد مجدية وخاصة مع التنين.
والمفارقة الأخرى في طرح كيسنجر هنا، أنه استبعد روسيا من قيادة العالم، ووضع القيادة بين الصين وأمريكا. فهو يرى أن روسيا أصبحت متنازعة بين الشرق والغرب جغرافيًا وسياسيًا ونفسيًا.. ومن هنا ينظر إلى صعود التنين الصيني باعتباره أمرًا مفروغاً منه ولابد من فهمه والتعايش معه ما دامت الصين ماضية في طريقها بعيدًا عن الإخلال بموازين القوة في عالم اليوم.
وهكذا يصف كيسنجر كل من أمريكا والصين بأنهما الركيزتان اللتان لا يمكن الاستغناء عن أيّ منهما في بنية النظام العالمي الجديد، وأن السعي إلى إرساء هذا النظام يتطلب إستراتيجية صلبة لتأسيس مفهوم جديد للنظام قادر على ربط الإقاليم العالمية مع بعضها البعض. وعلى أمريكا إذا أرادت أن تقود العالم أن تجيب في إستراتيجيتها على مجموعة من التساؤلات تتعلق بتحديد الأهداف والتحديات والقيم التي تسعى لتحقيقها في عالم متغير. وأن تستوعب الإدارة الأمريكية مجمل المتغيرات العالمية سواء كانت متمثلة في صعود التنين الصيني أو أزمات اقتصادية داخلية لتتسيد وتقود العالم إلى حين.