مواردنا...كيف نستثمرها ونديم عطاءها

د. هادي أحمد الفراجي*

في البداية لابد من التوضيح للقارئ الكريم أنّ الهدف الرئيس من هذه المقالة وما سيتبعها من مقالات يتمثل في تكوين وعي وإدراك مجتمعي حاسم بترسيخ مقولة إنّ حقنا في استثمار مواردنا يرتبط بمسؤولياتنا نحو آلية مقننة للاستثمار وتحقيق العوائد من جهة، وحق الأجيال اللاحقة بالاستثمار للموارد وجني نتائج الاستثمار .إذ إنّ الواقع الذي نعيشه يتمثل بتوزع اليابس المسكون على دول (كيانات سياسية) لها مساحاتها المعروفة وحدود سيادتها على أرضها ومياهها وأجوائها. وبالتالي فالموارد الطبيعية الموجودة في كل دولة تمثل موارد لكل الأجيال ولا يحق لجيلٍ بعينه الاستئثار بها تحت أي مبرر.

إنّ التسلسل المنطقي في هذه المقالة يتطلب توضيح معنى المفاهيم الأساسية الواردة فيها وهي: الموارد،الاستثمار،الاستدامة .وأنواع الموارد،وما هو دور الإنسان في استثمارها واستدامة عطائها.على أن نتناول في مقالات لاحقة الكتابة عن كل مورد من الموارد.

الموارد لغة: تعني المناهل ومفردها مورد والمورد موضع الورود، وورد وردا جعله يرد الماء والموردة هي الطريق إلى الماء، ووردت الشجرة أي خرج نورها واستورده أحضره المورد أي وضعه على الطريق.

الموارد اصطلاحا: مواد خام تشكل احتياطياً جاهزًا يستثمر عند الفاقة أو النقص أو الضرورة أو هي مصادر يستخدمها الإنسان لإشباع حاجاته ورغباته في استثمارها والانتفاع بإنتاجها، كسلع نافعة بعد استخدامها وتحويلها واستثمارها، ولا تعد موردا خاصا إن لم تستثمر استثمارا منتظما.

الاستثمار لغة: اِستَثمَرَ: (فعل) استثمرَ يستثمر، استثمارًا، فهو مُستثمِر، والمفعول مُستثمَر، اسْتَثْمَرَ أَمْوَالَه: اسْتَغَلَّهَا وَجَعَلَهَا تُثْمِرُ،عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَثْمِرَ جُهُودَهُ : أَنْ يَسْتَغِلَّهَا، أَنْ يُوَظِّفَهَا. أي الانْتِفَاعُ بِهَا فِي عَمَلٍ مَّا.

الاستثمار اصطلاحا: يظهر البعد الاقتصادي أكثر وضوحا في معنى الاستثمار فهو يعبر عن إنفاق في وجه من الوجوه من شأنه تحقيق مزيد من الدخل في المستقبل واستخدام الأموال في الإنتاج، إما مباشرة بشراء المواد الأوليَّة وإما بطريق غير مباشر كشراء الأسهم والسندات إلى غير ذلك.

الاستدامة لغة: اِستَدامَ: (فعل) استدامَ يستديم، اسْتَدِمْ، استدامةً، فهو مستديم، والمفعول مُستدام - استدام الشَّيءُ : استمرَّ، وثبت ودام وطلب دوَامَه .أما الاستِدامة كاسم والمصدر اِسْتَدَامَ فاِسْتِدَامَةُ العَيْشِ الرَّغِيدِ : دَوَامُهُ، اِسْتِمْرَارُهُ.
الاستدامة اصطلاحا : هي تعبير عن مصطلح بيئي يصف كيف تبقى النظم الحيوية متنوعة ومنتجة مع مرور الوقت. والاستدامة بالنسبة للبشر هي القدرة على حفظ نوعية الحياة التي نعيشها على المدى الطويل وهذا بدوره يعتمد على حفظ العالم الطبيعي والاستخدام المسؤول للموارد الطبيعية.

يمكن تقسيم الموارد إلى قسمين رئيسين يتمثلان بالموارد الطبيعية، وهي الموارد التي ليس للإنسان دور في وجودها أي كل ما تؤمنه الطبيعة من مخزونات طبيعية يستلزمها بقاء الإنسان أو يستخدمها لبناء حضارته.

تنتمي الموارد الطبيعية إلى ثلاثة أغلفة (بيئات) وهي الغلاف اليابس والغلاف المائي والغلاف الجوي وجميع الموارد الطبيعية ضرورية للإنسان والكائنات الحية الأخرى وكذلك النظام البيئي. لقد صنف الباحثون البيئيون الموارد البيئية الطبيعية إلى ثلاثة أصناف يندرج في كل واحد منها عدد من الموارد وهي: مجموعة الموارد غير الحيَّة: تتضمن الماء والهواء وطاقة الشمس الحرارية والضوئية والمعادن المشعة ومصادر الطاقة مثل الفحم والنفط والغاز الطبيعي. ومجموعة الموارد الحية: تتضمن كلاً من النباتات الطبيعية من غابات وحشائش ونباتات صحراوية، والحيوانات البرية والأحياء المائية. كما أن هناك تقسيماً يستند إلى مدى قابليته للنفاذ من عدمه، حيث قسمت إلى موارد غير متجددة: تتضمن الموارد الموجودة في البيئة على هيئة رصيدٍ ثابت وما يؤخذ منه لا يعوض. ومن ثمَّ فهي موارد معرضة لخطر النضوب والنفاذ. مثل الفحم والبترول والغاز الطبيعي والمعادن المُشعة. وموارد متجددة: تتضمن الموارد التي تتجدد ذاتياً وتتكون من مجموعة من مختلف مصادر الطاقة، فمن أمثلتها المصادر النباتية والحيوانية. وهي موارد لا تتعرض للنُضوب إذا ما استغلها الإنسان بأسلوب معتدل راشد بعيداً عن الإسراف.

الموارد البشرية: كل ما يتعلق بالبشر(السكان) من حيث نوعهم (رجال،نساء) فئات أعمارهم (الأطفال،الشباب،كبار السن) المنتجين وغير المنتجين، المتعلمين وغير المتعلمين، مستوى مهاراتهم وغير ذلك.

الموارد الاقتصادية: هي الموارد الناتجة عن تفاعل الموارد البشرية (الأنشطة والفعاليات) مع الموارد الطبيعية (استغلال،استثمار،توجيه) ويتمثل ذلك بالمجالات الصناعية والزراعية والتجارية والخدمية.

يقول الله تعالى في كتابه الكريم (لقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ( التين/ 4 )، بمعنى أن الله تعالى قد خلقنا في أجمل صورة ووهبنا ملكة العقل وميزنا بالمشاعر والأحاسيس وجعل لكل منا قلبا ولسانا وكيانا حتى نساهم بدورنا في تنمية ذاتنا والرقي بالإنسانية، وبالتالي، يمثل(أحسن تقويم) حقيقة مكنون الخلق للإنسان في ظاهره وباطنه. ليس هذا فقط، بل إن الله تعالى كرم الإنسان ورزقه من الطيبات وفضله على كثير من الخلق حيث يقول تعالى (ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (الإسراء / 70) .

لقد خلقنا الله لعمارة هذه الأرض، نحن خلفاء الله في أرضه، وركّب فينا سبحانه من الذكاء والقدرات الذهنية والدوافع النفسية ما يجعلنا صالحين ومؤهلين لهذه المهمة العظيمة، مهمة تحتاج عقولاً متطورة ومتعلمة ومتجددة ومبدعة ومبتكرة. إن الحكمة الإلهية شاءت أن تجعل من كوكب الأرض محور الحياة الإنسانية في هذا النسق الكوني العظيم فأمدها بجميع ما يحتاج إليه الإنسان من نبات وحيوان وأدار الحياة على كرتنا الأرضية في تناسق وتوازن نكاد لا نجد لهما شبيها في هذا الكون. فتجسدت المعجزة الإلهية الكبرى في تجدد الحياة في دورات متتابعة متكاملة مكنت الإنسان من الإفادة من الثروات الطبيعية الهائلة والتمتع بما في الأرض من مياه وغابات ومعادن ومن تطوير حضارات متقدمة أثرت الحياة البشرية وأتاحت لها فرصة الارتقاء بالجهد الإنساني لتحقيق التنمية والرفاه للملايين من سكان هذا العالم وتحقيق التقارب بين أجزاء الكرة الأرضية بفضل التقدم في وسائل الاتصالات والمواصلات الحديثة.

إنّ الإنسان المستخلف في الأرض من قبل الله تعالى يعد العامل المحوري، وهو وسيلة التنمية المستدامة وغايتها، لذا لابد أن يكون من الأولويات، إيلاء الاستثمار في الإنسان الاهتمام الذي يستحق، وبخاصة في التعليم والصحة والتأهيل وتنظيم الأسرة ورفع سوية الحياة، وذلك عبر الربط بين نوعية الموارد وآليات استثمارها بمنهج الاستدامة لعطائها، وهو ما سيؤدي إلى تحقيق مجتمع الكفاية والعدل والتضامن الاجتماعي، وتكوين البيئة المتوازنة التي تؤمن عدم اتساع الهوة بين مستويات دخل الشرائح الاجتماعية المختلفة.

إن مسؤولية الإنسان بما يمتلكه من عقل وما يكتسبه من علم، تتمثل في المحافظة على الروح الإنسانية التي أوجدها الخالق جل شأنه في جنسنا البشري، والذي جمعها في عقولنا، بمختلف أنواع الذكاء. وليشمل ذلك ذكاء ذهنيا يجمع المعطيات، ويدرسها، ويحللها، لينتهي لقرارات وحوارات رصينة مدروسة، وذكاء اجتماعيا للتواصل بين البشر، لنعمل معا بتعاون متناغم لكي نتعامل بنجاح مع التحديات البيئية، والمجتمعية، والاقتصادية، ومن ذكاء عاطفي نستطيع من خلاله السيطرة على انفعالاتنا في التعامل مع الاختلافات والخلافات، وتوجيهها نحو بناء المجتمع وتطويره، بدل ضياع هذه الطاقة الإنسانية في الحقد، والكراهية، والعداء العرقي أو الديني أو الطائفي، ومن ذكاء روحي نتفهم من خلاله معنى وجودنا في هذه الحياة، وأين نحن ذاهبون بعدها، وكيف يمكننا العيش فيها لنطورها، مع احترام مكونات الطبيعة التي خلقها الخالق، جلت عظمته، من مخلوقات متنوعة ومظاهر طبيعية جميلة، وكيف سنتعامل مع أقراننا من البشر بتناغم ومودة، لنترك هذه الحياة، وقد لعبنا دورا إيجابيا في بنائها، وإسعاد مخلوقاتها البشرية. كما علينا أن نتذكر أن علينا العمل لدنيانا كأننا نعيش للأبد، ونعمل لآخرتنا وكأننا سنموت في الغد. كما أن من صفات السُّمو البشري أن نعمل للآخرة لنرضي الخالق جلّ وعلا. لذلك لابد من التوجه نحو البحث عن أفضل السبل لاستثمار الإمكانات المتاحة مع المحافظة على التوازن في كينونة استمرار وجودها كما ونوعاً.

إن استثمار الموارد يجب أن يستجيب لحاجات البشر، وألا يؤدي استثمارها إلى استنزافها، ويرتبط ذلك بمدى قناعة المجموعة البشرية بجدوى التنمية المستدامة لمصلحتها، وكذلك مدى فاعلية المؤسسة الحاكمية في إرساء الاستثمار الأمثل لموارد البيئة الطبيعية وتنظيم استخدام تلك الموارد بما يخدم الجيل الحالي والأجيال القادمة، والتوزيع المتوازن للدخل على أفراد المجتمع من أجل رفع المستوى المعيٍشي وتحسين أداء عناصر الإنتاج في العملية الإنتاجية وفي تطوير التقنية التي يسخرها الإنسان في خدمة أغراض التنمية. وفي تقليل الفوارق بين الريف والمدن بما يسمح بالاستقرار ولتفادي مخاطر الهجرة. وتنظيم البيئة الطبيعية والبشرية عن طريق التقليل من مخاطر التلوث. وتحسين الخدمات الصحية والتعليمية والترفيهية وخدمات البنى التحتية. وعليه فإن استثمار الموارد يستند إلى فلسفة تستمد فاعليتها من خلال استمرار كينونة الحياة للإنسان والنبات والحيوان على حد سواء، وذلك من خلال ديناميكية تعتمد التوازن في هذا الكون. وهو توازن رباني في حقيقته، وكما ورد في محكم القرآن الكريم (إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر-49).

إنّ الازدهار في أيّ بلد ما مرتبط بكفاءة موارده البشرية، وغزارة موارده الطبيعية. وتنعكس كفاءة الموارد البشرية في دقة الوقت، ومهارة الأداء، مع مستوى علاقات التناغم في العمل وأخلاقياته. ويحتاج التناغم البشري لدرجة ذكاء يجمع بين الذكاء الذهني لخلق عملية تفكير متأنية، وذكاء عاطفي لتكوين قرارات بعيدة عن الانفعالات العاطفية، وذكاء روحي يتفهم تداخل الحقيقة بالخيال وقوانين الكون بعقائده وأساطيره، لتجنب معارك ايديولوجية امتلاك الحقيقة المطلقة واستبدالها بتفكير احتمالات الحياة المتناقضة، ويكملها ذكاء اجتماعي ليتواصل الإنسان مع أقرانه بلطف واتزان، لتوفير تناغم مجتمعي يحقق استقرار المجتمع وتنميته وتعد الاستدامة البيئية إحدى ركائز التنمية المستدامة، فالبيئة والاقتصاد يتداخلان، الأمر الذي يؤثر على قدرة البلد على تحقيق الأهداف التنموية جميعاً. حيث الارتباط بين تقديم الخدمات الأساسية المتعلقة بتوفير المياه الصالحة للشرب والصرف الصحي والغذاء والمسكن الملائم، وتوفير بيئة مستدامة من نظم الموارد الطبيعية، بما فيها المياه العذبة، والنظم الإيكولوجية البحرية وموارد الأرض والغلاف الجوي، وتخفيف الضغوط التي يسببها الإنسان على البيئة.

واستنادا لكل ذلك فإنّ سيادة القانون المحلي والدولي والشفافية والمسؤولية والمشاركة والديمقراطية واللامركزية والتكامل والتنسيق الشامل، وفي إطار من القيم الأخلاقية والروحية الراقية التي تعكس روح التضامن والتكافل والتسامح واحترام حقوق الإنسان، وعلى المستويات الوطنية والإقليمية والدولية على حد سواء يمثل الضمانات الحقيقية للاستثمار المستدام ذي العطاء المتوازن للموارد.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) صدق الله العظيم

*أستاذ وباحث في التنمية المستدامة

dralfaraji@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك