قوارب الموت

رحاب أبو هوشر

مُنذ العام 2012، انتقلتْ ظاهرة الهجرة غير الشرعية إلى مستوى جديد أكثر قتامة؛ فبعد أنْ كان "الحراقة" -وهم المهاجرون عبر البحر من المغرب العربي إلى أوروبا- يهربون من الفقر والبطالة وانعدام العدالة، تقلَّص سقفُ طموحات المهاجرين الجُدد، في زمن العبث الدموي، إلى النجاة من الموت والتشرد، لكنَّ هذا الطموح على ضآلته إنسانيًّا ضاقتْ به "قوارب الموت"، التسمية الفادحة اليوم.

وتقول تقارير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين إنَّ حوالي 3400 شخص من المنطقة العربية وإفريقيا، لقوا حتفهم أو فقدوا في البحار بين العامين 2012 و2014، وكانت أول حادثة عام 2012، بغرق 58 مهاجرا سوريا، في بحر إيجة بين تركيا واليونان، ثم توالت أخبار مآسي المهاجرين، إما غرقا في البحار أو قتلا على أيدي عصابات المهربين، أو خطفا واختفاء، أغلبهم سوريون وفلسطينيون وعراقيون، هربوا من جحيم الحروب، حاملين ما تبقى من حياة لهم، بعيدا عن أوطان أصابها الجنون؛ فقدت ذاكرتها فلم تقسُ إلا على أبنائها، طردتهم ودفعتهم إلى مغامرة تعادل الانتحار.

يقعُ المهاجرون في فخ المهربين/سماسرة الهجرة، ويعلمون بعد أن ينتهي بهم المطاف في قبضتهم في مناطق غريبة نائية، أنه جرى استدراجهم لرحلة مفتوحة على الاحتمالات الجهنمية، بين أيدي عصابات من المحتالين والمجرمين، احترفت استهداف اليائسين والتنكيل بهم.

يلتقي أولئك المثخنين، بعد أن يقطعوا مسافات وحدود خطرة، استعدادا لهجرة الخلاص. يُفاجئهم العدد البشري الضخم الموجود في المنطقة النائية المعزولة، نساء ورجالا وأطفالا. كلهم قدموا من أجل الهجرة. مأساة الحروب الوحشية ماثلة في قصصهم وأحوالهم وملامحهم، وباقترابهم وتواصلهم يمسكون جوهرهم الإنساني الذي مزقته القذائف، وتؤشر وحدة الحال الإنسانية بينهم على أن الإنسان هو القيمة الأساسية للحياة، والأكثر امتهانا في زمن الحروب.

أحد المهاجرين لا بد أنه سوري، بعد أكثر من محاولة فاشلة للخروج، قرر الفرار بعيدا عن سوريا، بعائلته الصغيرة "زوجته وطفليه"، فبعد مقتل معظم أهله على يد قوات النظام، وتحول "الثورة" إلى حرب تدميرية، دخلت "داعش" مدينته القامشلي، سيطرت عليها وبثت الرعب والهلع بين السكان، بأعمال القتل والسلب والاغتصاب، وفرضتْ قوانينها على دخول وخروج الناس من المدينة. تسلل مع عائلته عبر مسالك فرعية، وذهبوا جميعا صوب الحدود الشمالية، وقطعوها للقاء من رتبوا لهم إمكانية لهجرة غير شرعية إلى ألمانيا مقابل 5000 دولار.

وهناك شابان عراقيان، سُدَّت الآفاق أمامهما في العراق، وقرَّرا الالتحاق ببقية أفراد العائلة المهاجرين في ألمانيا. أحدهما فنان موسيقي ماتت أحلامه وطموحاته في عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي، الذي يسيطر عليه الفساد والطائفية وتجار السياسة، وصار يخشى على حياته بعد أن أحرق مجهول منزله. أما شقيقه الأصغر؛ فهو صحفي طرد من عمله، ووجهت له تهديدات بالقتل لأنه كتب مقالا نقديا ضد النفوذ السياسي لرجال الدين. بواسطة أصدقاء لهما، وبمقابل دفعة مالية، اتفقا مع سمسار هجرة محلي، حدثهما عن سهولة وسرعة السفر عن طريق شبكة تهريب يعمل معها، دون الحاجة للإجراءات المعقدة والطويلة، وبدون وثائق ربما لن يتمكنا من الحصول عليها. حملا ما ادخراه من مال قليل وأثمن مقتنياتهما، وتوجها شمالا، تسللا نحو العنوان المعطى لهم في تركيا، لملاقاة الأشخاص الذين سيأخذونهم إلى بلاد تمنحهم الأمان، إلى ألمانيا، أكثر البلدان الأوروبية استقبالا للاجئين.

والمهاجر الثالث، فلسطيني من مخيم اليرموك، قرَّر الهجرة إلى ألمانيا، بعد أن استدرج نظام الأسد وحلفاؤه من جهة، وتيارات من المعارضة المسلحة من جهة أخرى، مخيم اليرموك في دمشق، إلى ساحة الصراع الدائر هناك، وحلت به كارثة الحصار والقصف الجماعي العشوائي، حيث قتل كثير من السكان المدنيين، ومات غيرهم جوعا ومرضا، وسافر من تمكن من السفر، ليصبح المخيم جحيما مغلقا على القليلين المسجونين فيه، وتنحسر عنه حياة إنسانية ضج بها طوال عقود ماضية.

ظلَّ يُقيم في المخيم بانتظار تأشيرة دخوله، حتى فقد الأمل. الوضع يزداد سوءا، ومثل الآخرين، لم يعد ينتظر في المخيم إلا رصاصة مجهولة تقتله. عبر الإنترنت، تمكن من التعرف إلى مهربين/سماسرة هجرة "غير شرعية" عبر تركيا، أرشدوه إلى كيفية اجتياز الحدود السورية الشمالية حيث سيلتقيهم، ليؤمنوا وصوله إلى ألمانيا مقابل 3000 دولار.

ولا بد أن تكون بين المهاجرين، امرأة يزيدية عراقية، متوسطة العمر، مع ابنتها الوحيدة، هما من تبقى من العائلة، بعد اقتحام "داعش" لبلدة سنجار، شمال غرب العراق، وتهجيرها للسكان الذين نزحوا باتجاه جبل سنجار، هربا من قطع الرؤوس وحرق الممتلكات وسبي النساء واغتصابهن. المرأة نجت مع ابنتها؛ فقط لأنهما كانتا في زيارة خارج البلدة إبان الاقتحام، انضمت لمجموعة هاربة نحو الجبل، هناك حيث فقد الناس الأمل وكادوا يموتون عطشا وجوعا، لتنتهي في مخيم للاجئين في تركيا، وتقرر الهجرة نهائيا إلى ألمانيا، عبر وسطاء الهجرة غير الشرعية الذين انتشروا بين اللاجئين، ستقدم لهم أساورها الذهبية ثمنا لهجرتها.

يتعرَّضون للترهيب والإذلال، ويكتشفون أكاذيب سهولة وأمان الهجرة، ويُزج بمجموعات كبيرة منهم في قوارب متهالكة صغيرة، تغرق بعد إبحارها مسافة قصيرة في عرض البحر. جزء من المهاجرين، يذهبون برًّا عبر الغابات؛ هناك حيث يتعرَّض كثيرٌ منهم للضرب والسلب من قبل المهربين، ومن يحاول منهم الهرب، تتم مطاردته وإطلاق الرصاص عليه؛ لمنعه من اللجوء للشرطة. تُهان النساء ويختطف أطفال، وتنشط بين المهاجرين شبكات الاتجار بالرقيق والدعارة، قبل أن يصعدوا إلى القوارب؛ لينتظرهم البحر وجبة دسمة لكائناته. ومن ينجُ منهم من الغرق، تستقبله شرطة الهجرة الأوروبية على الشاطئ، لتضعه فورا في مخيمات مسيجة للاجئين، لا يسمح له بالخروج منها أبدا.

تعليق عبر الفيس بوك