نقد الحال الراهن (18) الحِدِّية

د. صالح الفهدي

عرضتُ عليهِ صورةً مركّبةً من صورتين فقلتُ له: ماذا ترى؟ قال: أرى عجوزاً، كثيرةَ التجاعيدِ، شعثاء الشعر، فسألته: ماذا لو قال لك أحدهم: إنّه يرى فتاةً في مقتبلِ العمرِ، ناعمة البِشرة، منسدلة الشعر؟! أجابَ على الفور: سأقولُ له إنّك غبي. عندها بيّنتُ له أنّ الصورة مركّبةٌ من صورتين لامرأةٍ عجوز وفتاةٍ شابة قائلاً له: كلاكما على حق في النظرة ولا غبي بينكما..!.

من أصعب الحالات التي تشكّل ظاهرة نفسيّة وثقافية وفكرية في مجتمعاتنا هي "الحالة الحدِيّة" التي تتأرجحُ بين طرفين متناقضين (إمّا أسودَ أو أبيض) وهي إشكالية وقع فيها البعض في الجانب الديني أو الفكري أو العلمي أو النفسي وغيرها..!

أمّا الجانب الديني فيتمثل في الشخصية البعيدة عن الدّين وفروضه، المرتكبةِ للمعاصي إلى حدّ الفجور، فإذا بها نتيجة لموقفٍ ما أو حالةٍ نفسية فجائية(تنقلب) إلى التديّن المُغالي..! كانت تُجيزُ كل شيءٍ فإذا بها تُحرِّمُ كل شيء حتى الذي أحلّه الله (والأصلُ في الدّين الإباحة) ..! ويُضربُ نقيض هذه الحالةِ مثلاً كذلك.

الإشكالية هنا أنّ هذه الشخصية قد تقع في التَّدين المغشوش الذي يصفه الشيخ محمد الغزالي بقوله:"إن التدين المغشوش قد يكون أنكى بالأمم من الإلحاد الصارخ"..! ذلك لأنّ بعض الذين يتلفعون برداء التدّين يكونون في مقامِ حسن الظنّ والثقة من المجتمع لكنّهم قد يستغلون ذلك بالتدليس وغش البشر وابتزازهم والنصب عليهم..! هذه الشخصية الحديّة صاحبة التدين "الشكلاني المغشوش" هي التي عُنيت - من وجهة نظري المتواضعة- في الحديث الشريف: " الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلاةٍ وَصَدَقَةٍ، وَيَأْتِي قَدْ ظَلَمَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، وَشَتَمَ هَذَا، فَيَقْعُدُ، فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الَّذِي عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحْنَ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ "[1]

أمّا الفكري فيجسدها بعضُ من تعلّموا في مؤسسات شرعية أو فقهية فإذا بهم ينسلخون من جلدتهم ويتمردون على معلميهم وعلى العلوم التي اكتسبوها ليستقروا في الحدِّ النقيض ليصفوا بأقذعِ الصفاتِ من تتلمذوا على أياديهم، ويتهمونهم بالخَرفِ والجهلِ والتحجّر ويصفوا أنفسهم بالتقدميين والعصريين والمفكرين والناشطين وغير ذلك من ألقاب متداولة في أدبيات العالم الحديث..! أما الجانب العلمي فهو بين ماديين يفسرون الأحداث وفقاً للعلم، أو إيمانيين يفسرونها بغير ذلك وكأن العلم والإيمان نقيضان..! وهنا يقعُ الاثنان في إشكالية الحدّية. يعقّب على هؤلاءِ د. الشريف حاتم العوني بقوله: "ولن يربح من ذلك كلِّه: لا الإيمان ولا العلم، ولن يغلب بذلك الطبيعيون ولا الماديون ولا الشرعيون. بل المنتصر في مثل هذا الطرح هو التفريقُ والتشرذمُ والاحتقانُ الفكريِّ والاجتماعي، وسينتصر فيه أيضًا الجهلُ والتعصُّبُ وضيقُ الأفق".

لا يحسبُ أننا هنا نتحدث عن اضطراب الشخصية الحدية ولا عن أعراضها، وإنّما نأخذُ عنها توصيفها المرضي لنَصِفَ به ظاهرة في مجتمعاتنا. ظاهرة أنتجت إشكاليات كان لها أثرها السلبي في تنمية المجتمع، منها الشلليّة (وهي الجماعات ذات الميول الواحد)، شلليّة إمّا (معنا) أو (ضدّنا) دون وجود مناطقَ رماديّة في الوسط، ولا توجدُ تسويات ولا تسامح في اتخاذ مواقف معتدلة أو متوافقة مع الطرفين..! الشللية ذات النفعية التبادلية ضيّقت الأفق، وحجّمت النظرة نحو المصلحة الوطنية العليا ليكون بمقاس مصالحها فقط، فإما أن تكون (مع) أو تكون (ضد) مع أن (خيرُ الأمور الوسط)..! والفضيلةُ كما يُعرفُ بين رذيلتين..! ومن المؤسفِ أن الوطن كان ضحيّة الحدِّية الإقصائية التي غيّبت من الكفاءات والكوادر الصالحة لأنّها ذات رؤية ونظر وبصيرة لا تتوافق مع الشخصيات الحِدّية التي تتعاملُ معها فأقصتها، وأهملتها، وهمّشتها حتى تذيقها ويلات الاستقلالية في الرأي، والاعتدال في التدبُّر، والوسطية في النظر..!

وأنتجت الحديّة في مجتمعاتنا الشخصية المجاملة المتملّقة التي تداهنُ هذا المسؤول وتلهب له ألسنة المدح والثناءِ لمصلحةٍ ترجوها فإن لم يحققها لها انقلبت عليه ساخطةً لاعنةً انقلابَ الجملِ الحاقدِ على مروّضه..! هذه الشخصية الحديّة خطيرة في انقلابها إن هي لم تجد ما تصبو إليه من منفعة لأنّها شخصية قائمة على الجشع والطمع وإن كان ذلك على حساب كل القيم الرفيعة التي تتظاهر بها أمام الناس..! هذا النمطُ من الشخصية الحدية النفعية كثير، فإن كان أحدهم في منصب أو وظيفة نافعة صبّت عليه المديح صبّاً، وإن خرجَ منها لم تقطع الصلة معه وحسب بل وتنقلبُ عليه، مُحيلةً كل حسناته إلى سيئات..!

وأنتجت الحديّة في مجتمعاتنا دُعاةُ الغلو من جانب، ودعاةَ التفسخ من جانبٍ آخر، فأصبح الفريقان يتنازعان الحقيقة ويتنافسان لاستقطاب المجتمع واستمالته وهما عدّوان له بحكم حديّة الأفكار والتوجّهات.

إنّ الإشكالية التي يقع فيها الكثيرون هي الاندفاع إلى كلّ حدّ فإن مدحوا بالغوا في المديح فخلطوا فيه الصدق والكذب، والغث والسمين، وإن خاصموا فجروا في الخصومة، وقلبوا كل الحسنات إلى سيئات، فصدق عليهم المثل الدارج "كل شيء يزيد عن حدّه ينقلبُ ضدّه" وفي هذا يقول د. عدنان إبراهيم :"كل المواقف الحدية تجعل الإنسان عرضة للانتقال الدراماتيكي من النقيض إلى النقيض".

الحديّة في بعض مجتمعاتنا الإسلامية أنتجت النظرة الضيقة الأفق التي تُقدّم تفسيرها الأوحدَ عن الدّين وتصادرُ ما عداه من فهمٍ لأصول الدّين، ومقاصد الشريعة، ومرامي العقيدة..! فإذا بها تجعلُ من الدّينِ قوالبَ جامدة، ونصوصاً حدّية، وهو عكس ذلك تماماً إذ هو دينُ الوسطيةِ والاعتدال والسِّعة. هذا الفكر الحدّي شوّه الدّين وسمعته وجعله رمزاً معادياً للتقدم والتطور في نظر أتباعه قبل الآخرين. هذه الحدّية هي التي فرّقت الأمّة إلى شيعٍ، وحكمت بأمزجتها دخول الجنّة أو النّار، وفصّلت الآيات والأحاديث بحسب منظورها. يحكي الشيخ محمد الغزالي هذه القصّة التي نقطفُ منها جزءًا، يقول:" كنت يوماً أتحدث في موضوع غير ذي بال، وفي المجلس رجلٌ موصوفٌ بالسلفية، وجرت على لساني كلمةً موهمةً لم أقصد إلى شيء بها! وتلفتُّ فإذا الرجل يحسب في نفسه مسارا فكريا، ويقدِّر أني سأتورط في كذا وكذا، وكشَّر عن أنيابه واستعد للفتك!! غير أنّ الحديث انعرج إلى ناحية أخرى، وشعرتُ بأن الرجل أسِفَ لأنِّي أفلتُّ منه. قلت له: فلان! قال: ما تريد؟ قلت: رأيتك متحفِّزا للنزال ثم كفى الله المؤمنين القتال. قال: نعم، حسبتك ستقول مالا أوافق عليه. قلت: إنِّكم متربصون بالخطأ لتأكلوا صاحبه، فإذا فاتكم شعرتم بالحزن، ليست هذه ياصاحبي خلائق المؤمنين! إنكم تجمعون جملة من صفات العناد والتحدي والحقد وتلمس العيب للأبرياء وهذا كله مرفوض فى ديننا".

إنّ الحالة الحديّة التي تطبعُ بعض جوانبنا الدينية أو الفكرية أو العلمية أو الأدبية قد انتجت إشكاليات تضرّ بالمجتمعات من خلال إقصاء الرأي المخالف، بل وتشويهه واتهامه بشتى الاتهامات، وافتعال التناقضات الحادّة في المجتمع لدرجة أنّه لا يلوحُ في الأفق ما يجمع بين الطرفين، وتقليص ثقافة الوسطية بل والنظر إلى كل وسطي بأنّه انهزامي..!

والطريقُ إلى علاجها يكمنُ في تغيير المفاهيم التي استقرّت في العقل الباطن واستبدالها بمفاهيم بديلة ذات صبغة نسبية في نظرتها للأمور، كما يقول المفكر الراحل علي الوردي: "كلّ شيء يحمل نقيضه في صميم تكوينه. وهو لا يكاد ينمو حتى ينمو نقيضه معه"والتخلّي عن الأحكام الحديّة الجاهزة المبنية على النوايا المبيتةِ والعواطف المنفعلة.



[1]رواهمسلم،والترمذي.

تعليق عبر الفيس بوك